لم يكن الجدل الأخير حول لائحة التدخل الخارجي في ليبيا صورة وحيدة عن الاختلاف بين حركتي الشعب والنهضة في تونس. المسألة أعمق بكثير. كل منهما يدخل الساحة السياسية بموروث متناقض من بدايته؛ بين تيار سياسي معبّئ بالعقد التاريخية من تجربة الستينات التي لعب فيها دور المظلومية بكل الروايات المكدسة بالغث والسمين، وبين تيار نقيض بدوره متمسك بما يسميها المبدئيّة التاريخية تجاه فترة عزيزة في الوجدان العربي لدى قطاع كبير من الناس.

حركة الشعب التونسيّة هي من الأحزاب التي تشكلت بعد الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في 2011، حاملة لفكرة التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية. وتعتبر ممثلة لجزء كبير من القوميين العرب في تونس. قبل تحولات 2011، كان أعضاؤها ونشطاؤها غير منتظمين حزبيا ومحسوبين على المعارضة للنظام، واقتصر نشاطهم على النقابات العمالية والطلابية أو في قطاع المحاماة في ظل حالة القمع الممارسة عليهم وعلى غيرهم من النظام آنذاك.

أما حركة النهضة فهي الواجهة الرئيسية للإسلام السياسي المحلي، بكل المخاض الذي عاشه بين نظامي الحبيب بورقيبة وبن علي. الفرق بينها وبين سابقتها أنها مشكّلة ومهيكلة منذ سبعينات القرن الماضي، حيث كانت لها مؤتمراتها وكان لها نشاطها وإعلامها وخلاياها السريّة الموزعة على كامل مناطق البلاد. وعلى الرغم من موروثها المحافظ قبل سنوات السجون والمنافي إلا أنها عادت لتخرج حزبا براغماتيا يزعم القبول بالفكرة المدنية والتعامل مع الآخر تأثرا بتجربة المهجر، وهو ما ينفيه عنها خصومها معتبرين أنها مازالت تعيش بنفس الأفكار القديمة وما تصريحات بعض قادتها أيام الثورة إلا دليلا على ذلك.

وبعيدا عن التأريخ للحزبين، هما الآن يلتقيان في حكومة تونسية، لا هي بحكومة وحدة وطنية ولا هي بحكومة أغلبية، مثلما هو دارج في بعض التجارب السياسية الأخرى في العالم. هما في حكومة ما يسمّونها "الضرورة" أو حكومة "الرئيس" أو لنقل هي حكومة الالتقاء المر. فبعد الانتخابات الأخيرة نهاية العام 2019، لم تنجح كل الأحزاب في تشكيل أغلبية واضحة يمكنها من خلالها تشكيل حكوماتها رغم محاولة بدأتها النهضة باعتبارها صاحبة أغلبية طفيفة، لكنها فشلت في ظل رفض كل الأحزاب باستثناء مقربين منها، فكان الالتجاء إلى خيار ثان وهو حكومة الرئيس باعتبار قيس سعيّد كان محددا لها عبر تفويض من الأحزاب.

لكن نجاح تشكيل الحكومة لم يكن أبدا مؤشر انفراج في الصراع السياسي في تونس، حيث لم تستوعب حركة النهضة الإسلامية مشاركة حزب تصنّفه في قائمة أعدائها التاريخيين، خاصة أنه أجبرها على القبول بالحكومة الأخيرة، في ظل تخوفاتها من فصل دستوري أو تحالفات أخرى قد تخرجها من السلطة رغم فوزها النسبي في الانتخابات.

الخلاف بين حركة الشعب وحركة النهضة في الواقع سبق حتى الحكومة والانتخابات الأخيرتين، فالحزب الإسلامي دخل الحكم مبكرا بعد انتخابات 2011، ومنذ ذلك التاريخ لم يخرج حتى في أحلك الفترات التي عاشتها البلاد أيام الاغتيالات التي حمّلت فيها النهضة المسؤولية، خاصة السياسية، باعتبارها كانت متساهلة مع التيارات المتطرفة التي قتلت السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، بل إن جزءا كبيرا من المعارضة التونسية يعتبرها مسؤولة بشكل مباشر عن تلك الاغتيالات من خلال ما يُشتبه في أنها أجهزة سرية تابعة لها مخترقة لبعض المؤسسات في الدولة وكانت ضالعة في العمليات ومازلت القضايا حولها في المحاكم.

المتابع للشأن السياسي في تونس يعرف أن علاقة حركة الشعب بحركة النهضة كانت دائما متشنجة، حتى اللقاءات القليلة التي تمت بينهما، لم تخف حالة الجفاء المغروس في أذهان الجميع للأسباب المذكورة سلفا ولاحقا، وعندما دخلا معا في الحكومة الأخيرة كان البعض يعتقد أن تكون هناك عملية تطبيع بين الطرفين في إطار توافقات وضمانات وقّعت على مكتب رئيس الحكومة، لكن كل ما حصل منذ بداية العمل الحكومي يبيّن أن العلاقة مازالت متوترة ولا أحد منهما مطمئن للآخر. الواقع أن حركة النهضة دائما لا تتعامل مع خصومها إلا بقاعدة الأداة الطيعة مثلما حصل مع حلفائها في حكومات 2011، و2014، وحاولت أيضا في 2019، لكنها وجدت نوعا من الصد أو النديّة التي جعلت الأمور تتوتر إلى ما وصلت إليه اليوم.

وفي دليل على درجات التوتر بين الحزبين في الفترة الأخيرة حول العلاقات الخارجية، سارت حركة الشعب إلى غير ما تريد حركة النهضة سواء في علاقة بالرسالة التي وجهها رئيس البرلمان راشد الغنوشي إلى حليفه فائز السراج مهنئا إياه بالسيطرة على قاعدة الوطية، سواء في علاقة بلائحة التدخل الأجنبي في ليبيا، حيث وافقت حركة الشعب على أن تُحسم بضرورة التأكيد على التنديد بكل التدخلات في ليبيا، في حين رأت النهضة أن في ذلك استهدافا لتركيا حليفتها الرئيسية والتي أعطى مجلس نوابها شرعية التدخل العسكري وقد كان مساهما عبر طائراته المسيرة في ترجيح كفة قوات الوفاق.

في الواقع لم يكن الحزبان ينتظران الأزمة الليبية ليظهران الخلاف، مؤشرات كثيرة كانت بادية حول الهوة الكبيرة، لكن زادت في تعميقها جلسة الحوار مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي يوم 3 يونيو، أين كانت قاعة المجلس مجال تعليقات وردود واتهامات لم تنته إلا بانتهاء الجلسة فجر اليوم الموالي.

وفي ظل حالة عدم الانسجام بين الحزبين، وأمام الخلاف الظاهر في أكثر من خيار محلي وخارجي، يبقى مصير تشاركهما في الحكومة غامضا وسط ترجيحات بفك الارتباط قريبا، باعتبار أن النهضة سواء من خلال قيادتها السياسية التي بدأت تتحدث عن حكومة وحدة وطنية بمعنى إلحاق أطراف أخرى، وهو خيار خلافي بين أطراف الحكم، سواء من خلال أنصارها عبر عملية شيطنة غير مسبوقة لحركة الشعب وقياداتها في وسائل التواصل الاجتماعي وهو ما يوحي بأن حبل الارتباط المهترئ بطبيعته يتجه نحو الانقطاع.