تتساقط الأقنعة عن الوجوه الكالحة، المتآمرة على شعبها، وبلدها وتاريخها، وهويتها، وتغيب وجوه، وتظهر وجوه جديدة فيما يسمى (معارضة ليبية)، إذ لم نعد نعرف، ونميز كيف ينتحل هؤلاء الصفة وينتزعونها، ومن يمنحهم إياها… هل تاريخهم السياسي مثلاً، أم نفاقهم لعقود داخل النظام السياسي الليبي، وتعبئة جيوبهم لسنوات طويلة، ثم فرارهم حيث البترودولار، وحيث الإمكانية لوجود قضية جديدة يمارسون من خلالها لغة النفاق، والدجل التي اعتادوا عليها لسنوات طويلة، ولكن هذه المرة باسم (الديمقراطية) و(الحريات) والدفاع عن حقوق الشعب، بعد أن كانوا في الصفوف الأولى باسم (التقدمية) و(الاشتراكية)...

ولو بحثنا في كل كتب التاريخ المعاصر عن توصيف دقيق لممارسات بعض من سموا أنفسهم (معارضين ليبيين!) لما وجدنا إلا توصيفاً واحداً وهو (متآمرين ليبيين) أو (عملاء ليبيين للأجنبي)، وتوصيفنا هذا يكاد يكون موضوعياً، وعلمياً إذا لا يوجد في تاريخ الأمم والشعوب من يدعو لاحتلال بلده بحجة بناء الديمقراطية، ونشر الحريات، وتوزيع حقوق الإنسان بإشراف تركي ـ قطري ـ أمريكي...! ولا يوجد في التاريخ فضائح، وسقوط أخلاقي، وسياسي أكثر مما هو لدى بعض هؤلاء المنتفعين ـ الانتهازيين من شلال الدماء في وطنهم...


القضية لا ترتبط برأيي الشخصي، وإنما بالأدلة، والوثائق التي تصلح لمحاكمتهم كمجرمي حرب، وإرهابيين قتلة شاركوا مع قوى العدوان ضد أبناء بلدهم، وجيشه ومؤسساته، بمعنى أصح، إن مدعي المعارضة هؤلاء يعرفون تماماً أن الشعب الليبي لا يمكن أن يدعمهم، وأنهم لا يتمتعون بأي مصداقية شعبية، ولهذا يريدون من تركيا والولايات المتحدة وقطر... أن تتدخل عسكرياً لتنصيبهم (بيادقً) لها في ليبيا، وهم أنفسهم الذين يتمسكون بالنصرة ـ وداعش ومرتزقة تركيا... وغيرها من التنظيمات الإرهابية كأداة لتدمير الدولة الليبية، والوصول والسيطرة على السلطة... فالمشروع انفضح، وانكشف، ولم يعد له لا أيدي، ولا أرجل ـ يمشي عليها بعد أن هزمته إرادة الشعب الليبي، وجيشه، ودعم الأصدقاء، والحلفاء، وأصبح اللعب على المكشوف كما يقال. 


وللأمانة، لا يمكن الحديث عن معارضة واحدة في ليبيا، لأن الموضوعية تقتضي الحديث عن "معارضات"، بعضها مقيم في الداخل ومعظمها في الخارج، لكن الثانية مرتبطة بأجندة واحدة وهي الاستيلاء على السلطة، ولو أدى ذلك إلى ما أدى من تدمير وتخريب وربط الوطن بعجلة الاستعمار، والمسألة لا تتدرج في توجيه اتهام سياسي إلى المعارضة، بل تستند إلى وقائع ومواقف ومعطيات ملموسة... والمعارضات الليبية، وهو المصطلح الأكثر دقة للتعبير عن الواقع يمكن تقسيمها إلى فئات عدة:


ـ النموذج الإخواني والتكفيري: وهو النموذج الأكثر سيطرة على الأرض، الذي يسعى إلى قتل الآخر، أي آخر لا يتفق مع إيديولوجيتهم المريضة المعادية للحضارة الإنسانية، ولقيم مجتمعاتنا، وتنوعها، وهذا النموذج الذي يعتمد على إدارة استخباراتية دولية، وخزان (جهادي!) متعدد الجنسيات، وخزائن نفط، وغاز تموله، ويشكل بمجمله جيوشاً من المرتزقة والجماعات الإرهابية، وهو النموذج الرافعة لما يسمى (معارضات سياسية) في الخارج، بمعنى أنه مسخر لفتح الطريق للعملاء ـ والخونة تحت يافطة (الثورات)، وهو النموذج نفسه الذي استخدم في سوريا لجلب حكومة مركبة تمثل مصالح القوى الخارجية ـ وليس الشعب ـ ومصالح البلاد. 

والحقيقة أن مشروع هؤلاء فتنوي ـ مريض بامتياز لأنه المشروع المطلوب على صعيد المنطقة، الذي يشكل حزب أردوغان مرجعيته السياسية، ورأس حربته في التنفيذ، والرعاية، ولذلك ليس لدى هؤلاء من مفردات سياسية سوى المفردات الفتنوية التي تعبر عن سقوط أخلاقي، وعن أدوات غرائزية لزج الناس في حرب لا تقدم، ولا تؤخر لبلدهم أي شيء، فهؤلاء استخدموا الدين الإسلامي لتنفيذ أجنداتهم السياسية، وحولوا الدين إلى واجهة للتضليل، والكذب وإخفاء حقيقة ارتباطاتهم بمشروعات الهيمنة الإمبريالية الأميركية والغربية والرجعية.

خطورة هذا النموذج أنه أداة تدمير ليس فقط للبنى التحتية، إنما للبنى الاجتماعية، والنسيج الوطني، ونشر الفتنة والقتل والإجرام أيضاً باسم الدين الإسلامي. ولا يخفى هنا علاقات التعاون والتخادم بين التيارين الإخواني والتكفيري، وأحياناً الصراعات العلنية، والدموية على الأرض من أجل تنفيذ الخطط، والأجندات التي وضعها المشغلون.


ـ النموذج (العلماني): ويضم شخصيات معارضة تدعي العلمانية، وتمثل قوى اليسار، ولكنها في حقيقتها ليست إلا قوى انتهازية تعتاش على آلام شعبها، وتشكل واجهات كرتونية سخيفة للقوى الإخوانية المحرك الأساسي لكل ما يجري في ليبيا.


ـ نموذج (الانتهازيين الفاسدين المرتزقة): وهؤلاء مجموعة من المسؤولين السابقين في الدولة، الذين استفادوا من السلطة، ومزاياها لمرحلة طويلة، فتحولوا مباشرة إلى القارب الذي اعتقدوا أنهم سينجون به لإعادة إنتاج أنفسهم باسم (المعارضة)، وللعودة إلى ممارسة انتهازيتهم السابقة تحت عنوان جديد.


ـ كتلة العملاء الذين يعيشون في الخارج: وتضم أولئك الذين عاشوا خارج بلدهم لفترات طويلة، ووجدوا في قضية الحرب على بلدهم فرصة للظهور، واستعراض البطولات، والعنتريات، وإطلاق المحاضرات الفلسفية على شعبهم حول (الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان) معتقدين بأن الأجهزة الاستخبراتية التي دربتهم سوف توصلهم إلى مقاعد السلطة والنفوذ كواجهات لقوى دولية، وإقليمية سياسية، ومالية، ووصل الأمر بهؤلاء، إلى الترويج، والدفاع عن التنظيمات الإرهابية الإخوانية ـ التكفيربة باعتبارهم ثواراً تقدميين وذراعاً متقدمة لمستقبل ليبيا.


ومن المؤسف حقًّا أن تلك المسماة "معارضة الخارج"، وتلك العصابات الإرهابية التي تعبث بالأمن الليبي وتعبث بمقدرات الشعب الليبي، وتعيث في الأرض فسادا، وتقاتل بعضها بعضا، تثبت كل يوم أن لا مبدأ يربطها ولا مشروع وطني حقيقيًّا لديها، وإنما هي مجرد أدوات الباطل الذي غشى به المتآمرون الجماهير العربية، وأنهم تجار موت ليسقطوا جميعا "أدوات وعملاء وداعمين للإرهاب" سقوطًا أخلاقيًّا، وتسقط معهم الكذبة الكبرى وباطلهم الذي زينوه وحاولوا على مدى ما يزيد من تسع سنوات، إلباسه لبوس الحق، دون أن يقع في عقولهم ومخيلاتهم أن الحق أبلج وقوته لا تضاهيها قوة مهما عتت وسطت.


طبعاً هناك كتل معارضة تضم أفراداً، وشخصيات مختلفة بعضها عاش في القاهرة وبعضها في الغرب، وهؤلاء بينهم شخصيات وطنية عديدة، ولكنهم أفراد لا تأثير شعبياً له، إنما هم ظاهرة موجودة ويتم التعاطي معهم كحالة بديلة للاتجاه الإخواني التكفيري المسيطر.


في كل الأحوال فإن مأزق المعارضات الليبية سيزداد كلما اقتربت آفاق الحل، والتسويات، والأسئلة الصعبة التي سوف تواجههم ومنها:

ـ أي ليبيا تريدون، العربية، المستقلة، أم ليبيا التابعة، الخانعة، المستسلمة؟

ـ أي نظام اقتصادي ـ اجتماعي تطرحون، نظاماً يقدم التعليم، والصحة والخدمات المجانية للفقراء، ويجمع بين مزايا النظامين الرأسمالي والاشتراكي، أم نظاماً نيوليبرالياً تابعاً لقوى الهيمنة العالمية؟


ـ أي نظام تربوي، ثقافي، إعلامي تريدون: هل هو من يعزز الهوية، والانتماء الوطني، والتسامح، والمحبة، أم نظام يعزز التفرقة، ويميز بين أبناء الشعب من خلال القبائل، والمذاهب، خدمة لمشروع تفتيت المنطقة؟


ـ أي جيش تريدون، جيشاً عقيدته انهزامية، غير مقاومة، وغير عربية تقوم على الارتزاق والتبعية أم جيشاً عربياً ليبياً ترفع رأسك بجنوده، وصف ضباطه، وضباطه الذين قدموا أمثولة في التضحية، والفداء من أجل الوطن والشعب، إنه جيش الشهداء...

 تلك هي الأسئلة الصعبة التي سيواجهها هؤلاء، إن قبلوا المواجهة وساعتئذ سيقرر الشعب الليبي مصيركم، ومصير غيركم من المعارضات التي راهنت على الخارج، وعلى الإرهاب ليوصلها إلى كرسي ملوث بالدماء... 

خلاصة الكلام: إنّ إجمالي المعارضات الليبية الموزعة بالخارج، التي تتحدث بخطابات متناقضة متنافرة حسب الجهة الممولة، والداعمة، ليست إلا أدوات للاستخدام حسب الدول، وأهدافها، ذلك أن العدوان المستمر على ليبيا جعل من هؤلاء مهزلة، وكارثة حقيقية، وعبئاً على مشغليهم، نتيجة تكرارهم الخطابات، وشعارات أعلى من قدراتهم، وإمكانياتهم بحكم أنهم صدى صوت، وببغاوات لمشروع العدوان، وليسوا قوى وطنية حرة قادرة على اتخاذ الموقف السياسي الوطني الذي تقتضيه مصلحة ليبيا، وطبيعة التحديات التي تواجهها، والحرب الشرسة التي تخوضها على قوى الأخونة والإرهاب.


*مصطفى قطبي

باحث وكاتب صحفي من المغرب.