حين نتحدث عن الدراسات الاستشرافية، بداية يبرز أمامنا سؤال جوهري: هل لدينا دراسات استشرافية بالدول المغاربية !؟

إن استشراف المستقبل أمر ليس مستحيلا أو خارج قدرات التحليل السياسي، وإنما يحتاج إلى رؤية أكثر شمولا وأبعد عمقا، تمزج السياسة بالتاريخ والاجتماع، وتضع الجميع في إطار الصيرورة الحضارية العامة، هذا المزج لابد منه لاستشراف التطورات السياسية المقبلة داخل منطقتنا المغاربية وبالذات شكل الدولة الإقليمية التي سوف تخرج من رحم التطورات المتسارعة...

كان ديدن الإنسان منذ وجوده العاقل على هذه الأرض هو التساؤل عن مصيره، ومحاولة استشراف المستقبل عبر وسائل متعددة، وهذا ما أكسبه ميزة ظلّ لولاها مستعبداً للطبيعة وضروراتها، وعاجزاً عن التقدم والارتقاء. وقد كثرت الندوات والدراسات التي تهتم باستشراف المستقبل بعد الحرب الكونية الثانية، وكثرت الخطط التي تهتم بمصير الإنسان وما يمكن أن تؤول إليه حضارته عبر دراسات استبصارية تدرس المشكلات المتفاقمة التي تحدث في الواقع الإنساني، دراسة ترى مدى اتصال الأحداث فيما بينها، وأنها لا تشكل وحدات منفصلة بعضها عن بعض, بل تشكل جزءاً من حالة عامة وعميقة تشمل الحضارة البشرية كلها.‏

 وتقوم هذه الدراسات الاستشرافية باتباع أسلوب علمي في تقصي الأحداث ومراقبة التحولات مع الاستفادة من البيانات والإحصاءات، بل من جميع ما توصل إليه العلم لوضع حلول لما قد يعترض الإنسان من مشكلات لابد له من التذكير بها قبل حديثها بوضع جملة من الحلول تقوم على التخطيط والبرمجة واستبصارها لما هو مستقبلي وقابل للحدوث وفق معطيات الحاضر وما هو كائن وموجود من إمكانيات قابلة للاستعمال في حال حدوث أزمات تتعلق بنواحي الحياة جميعها، اقتصادية، اجتماعية، بيئية...
 
إن ما دفع العلماء إلى مثل هذه الدراسات الاستشرافية يرجع إلى إيمانها بضرورة استشراف المستقبل، التي يجب أن تسبق أي عملية اختيار لطريق دون أخرى، مهتدياً بالعقل والعلم وقواعدهما، ومبادئهما باستنادهما إلى التجارب البشرية المتراكمة وبالاستعانة بالخيال وحس التنبؤ مقروناً بالعلم ومعطياته.‏ فمع تطور العلوم المادية ظهرت نزعات جديدة تعني بضرورة تحديد شكل المستقبل ومحاولة تسييره باتجاه شبه حتمي نحو التقدم والارتقاء عبر التنظيم ودراسة المجتمع وتوجهها لزيادة الاستفادة من السيادة على الطبيعة وتسخير معطياتها لخدمة البشرية، ثم السيادة على المجتمع ومحاولة تنظيمه بشكل عقلاني يؤدي إلى الاستفادة القصوى من إمكاناته وقدراته للوصول إلى أفضل شروط الإبداع الذي يسخّر لخدمة الإنسان وتحقيق رفاهه وحريته.‏

بات علم دراسة المستقبل وأصحاب النزعة الاستشرافية في عصر التكنولوجيا وسيادتها المطلقة يؤمنون بإمكانية صناعة المستقبل الذي تحتمه إرادتهم وإرادة المسؤولين عن هذه المجتمعات، يسخّرون العلم ومعطياته في سبيل صناعة التاريخ والمستقبل وإخضاع المجتمع الإنساني بقواه وفعالياته بتنظيم عقلاني موجه من قبل مجموعة تمتلك أدوات التحكم والسيطرة والتوجيه, وبذلك تعمل الدراسات الاستشرافية على (صناعة المستقبل) كونها فناً يتجاوز حدود التنبؤ العفوي الحدسي المحايد القائم على مجرد التوقع إلى محاولة السيطرة على المقدمات لحصد النتائج بشكل علمي مدروس لتحقيق أكبر قدر مما هو مطلوب من المجتمعات وفق استراتيجيات مرسومة بشكل مسبق.‏

لقد نشطت الدراسات الاستشرافية في الغرب بشكل واضح منذ أواخر القرن الخامس عشر عبر مجموعة من الفلسفات التقدمية التطويرية المتفائلة، وبرزت أسماء كثيرة مثل (توماس مور) وكتابه الـ(يوتوبيا) الذي وضع فيه مخططاً لمجتمع مثالي خال من العنف والتعسف والاضطهاد. (فرانسيس بيكون) الذي دعا إلى قيام مجتمع يقوم على العلم كوسيلة أساسية في فهم الأشياء وأداة مهمة للسيطرة على الطبيعة وفهم أحوال البشر في مؤلفه (الاطلنطس) إلى (برناردي فونتيل) إلى (روبير تيرغو) في كتابه التقدم التدريجي للعقل البشري إلى (سباستيان مرسييه) في كتابه الذي يتنبأ بالمستقبل، إلى الكتاب المجهول المؤلف الذي عنوانه (عهد الملك جورج سادس) الذي تنبأ به بأحوال البشرية في القرن العشرين، إلى ظهور مجموعة في الأدباء الذي اتخذوا في التنبؤ وسيلتهم الأساسية في الكتابة كما هي حال الكاتب (جون فيرن) الذي كتب مجموعة من المؤلفات الشهيرة مثل (رحلة من الأرض إلى القمر) و(حول العالم في ثمانين يوماً) إلى (هاربت جورج ويلييز) صاحب كتاب (آلة الزم) وكتاب (حرب العوالم) و(اليوتيبيا الجديدة) وشكل الأشياء المستقبلية وكلها أعمال أدبية تتحدث عن المستقبل وتتخيل حالاته مما تحقق في معظمه وغالبيته.‏

 كما ظهرت مجموعة من الفلاسفة من الذين اهتموا بدراسة العوامل الفكرية والعلمية والاقتصادية التي تحدد آفاق المستقبل وترسم خطوطه العامة كما هي الحال (بيرترندرسس وهيغل ونيتشيه) والماركسية بشكل عام.‏

أما في الجانب المغاربي فقد ندرت مثل هذه الدراسات ولم يتقدم الدارسون وعلماء اجتماع المغاربيين للتصدي لمثل هذه الدراسات واقتصرت عل جهود فردية أو جزئية واقتصر وجودها على المؤسسات التي تتخذ من التخطيط ودراسة المعطيات الحاضرة لاتخاذ القرارات والإجراءات المستقبلية وربما تكون الحكومات المغاربية التي تنام في العسل هي المسؤولة الأساسية على غياب مثل هذه الدراسات أو عن قلة جدواها وإحباط منفذيها وعدم الإيمان بضرورتها حتى بقيت وزارات التخطيط في الدول المغاربية من أضعف الوزارات وأقلها شأنا.‏
وينسحب ذلك على المجالات جميعها التي تحتاج إلى المزيد من الدراسات الاستشرافية على المستويات التعليمية والاقتصادية والإعلامية في الموقف الفعلي من التخطيط ما زال متخلفاً ينبع من تصورات قديمة بأنه مجرد عملية حسابية كما يعاني التخطيط من عدم الإحاطة من كل ما يجب الإحاطة به، مما يطرح مشكلة إدارية حقيقية في مستويات تحديد أطر المجتمعات المغاربية التي أهملت في غالبيتها مجرى التطور في علوم الإدارة والتكنولوجيا الإدارية الجديدة.‏

إن غربة الوعي المغاربي في مثل هذه العلوم مسألة خطيرة على مؤسسات الدول المغاربية وفعالياتها، قد تفسر حالة الإحباط وانجراف مسار التنمية الاجتماعية والبشرية فيها، ولهذا مازال المغاربيون يتفاجؤون بالأحداث الكبرى التي تلّم بهم وتنسحر سلوكاتهم بمجموعة من ردود الأفعال الآنية التي تضطرهم إليها مجموعة الأحداث التي تقع بين ظهرانيهم.‏ وربما تحتاج الدول المغاربية مجتمعة إلى وضع ميزانيات كبيرة للبحث العلمي الاستراتيجي الاستشرافي في المجالات جميعاً لاستطلاع دروب المستقبل الذي يمتلكه من يخطط له بشكل علمي دقيق.‏
إنّ أبجدية التاريخ وفلسفة الحضارات تؤكد أن نسيج بساط المستقبل المغاربي وصياغته قدره الانطلاق من الجغرافيات المغاربية أو الاستضاءة بمعطيات التوجه الحضاري المغاربي، هذه واحدة، ‏أما الثانية فتتمركز على بناء الإنسان المغاربي وفق لوائح القيم الدينية والأخلاقية والثقافية والعلمية بكل مفاصلها على مستوى العلوم الإنسانية والطبيعية، لأن المعارف والعلوم هي الحجر الأساس لبناء الأفراد والجماعات والمنطلق الوحيد لإقامة مستقبل الأمم وتشييد صروح الحضارات وكل العلوم لها شأنها وأهميتها وعظمتها، وتعميق وحدة التواصل والتعايش والتعانق والتجانس الوطني والإنساني بدءاً من جغرافيات الضاد تواصلاً مع جغرافيات قريتنا الصغيرة الأرض، واعتماد المحاور المعرفية خطاً ناظماً لبناء المستقبل المعرفي لأنها السبيل الأوحد للرقي السياسي القادر على الشروع في إقامة الوحدة المغاربية...

فنحن مطالبون اليوم أكثر من أي يوم مضى بدراسات استشرافية حقيقية وعلى مختلف الأصعدة...  فلا بد من التأكيد على أهمية التطوير المعرفي والعلمي، بما يمنحنا رصيدا كافيا من المناعة الثقافية والمعرفية لمواجهة التحديات المستقبلية، أيضاً علينا أن نبحث، نستنبط، نضيف على ما قُدم الكثير، أن نستثمر إمكانياتنا وكفاءاتنا لتأسيس جيل مستقبلي متحصن بسلاح المعرفة والعلم، قادر على مواكبة المتغيرات، مهيأ لخدمة مجتمعه...

*باحث وكاتب صحفي من المغرب.