يوم 13 من ديسمبر أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد عن خارطة طريق حدد عبرها ملامح المرحلة المقبلة على المستوى السياسي بعد حوالي خمسة أشهر من التجاذب الذي أفرز أزمة مازالت تبعاتها ماثلة إلى اليوم. لكن هذه الإجراءات بالقدر الذي بعث تفاؤلا ولو نسبيا لدى البعض بالقدر الذي طرح أسئلة عن مدى نجاح البلاد في إنجاز ما تم الإعلان عنه، خاصة أن البلاد أمام استحقاقات اقتصادية تستوجب التركيز عليها أكثر من أي خيار آخر، بالإضافة إلى أن "جبهة" المعارضة التي تقودها حركة النهضة مازالت تتوهم أن الشارع سيحسم الأزمة لفائدتها.

وفي الوقت الذي كان التونسيون ينتظرون من الرئيس الإعلان عن إجراءات حاسمة في ذكرى "الثورة" يوم 17 ديسمبر من مدينة سيدي بوزيد بالوسط الغربي للبلاد، تفاجأوا بإعلان سعيّد عنها قبل التاريخ المنتظر بأيام، مما فهم منه تراجعا عن استغلال يوم وطني في صراعات سياسية مازالت ستطول في ظل مناخ عدم الثقة الذي يسود الطبقة السياسية برمتها، وإصرار كل طرف على المضي في ما يخطط له إلى ما لا نهاية، دون التفكير كثيرا في الحالة العامة للبلاد على كل المستويات، بينما يرى آخرون أن بيان الدول السبع المنتقد لإجراءات سعيّد، هو الذي فرض التعجيل بالكلمة، وهذا غير مستبعد من خلال التلميح إلى أن تونس بلدٌ ذو سيادة ولا يتلقى أوامره من أحد.

خارطة الطريق المعلنة فيها ما اتخذ في شأنه قرار سابق مثل البرلمان الذي واصل في تجميد صلاحياته وتعليق العمل ببعض الفصول الدستورية، لكن فيها ما هو جديد بعد الإعلان عن تاريخ لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة بتاريخ 17 ديسمبر المقبل بالتزامن مع عيد الثورة وفق قوانين انتخابية جديدة تقطع مع الفوضى التي حصلت سابقا وفتحت المجال أمام الفساد لاختراق المشهد السياسي، بالإضافة إلى وجود عضويات برلمانية بأغلبيات ضعيفة لا تعبّر عن إرادة شعبية حقيقية. كما تضمنت كلمة الرئيس سعيّد، إجراء استشارة الكترونية على الدستور تنتهي في 20 مارس 2022 بالتزامن مع عيد الاستقلال، وتتشكل بعدها لجنة مختصة، الأقرب أن تتكون من أساتذة قانون دستوري سبق وأن زاروا الرئيس في قصر قرطاج، تنظر في تلك الاستشارة وتوجه مقترحاتها نحو استفتاء شعبي في 25 يوليو 2022 وهو تاريخ عيد الجمهورية في البلاد.

وأعاد سعيّد التذكير بضرورة إجراء صلح جزائي مع رجال الأعمال الذين تتعلق بهم تهم فساد يفرض عليهم الاستثمار في المناطق الفقيرة بمبالغ تساوي ما تم الاستيلاء عنه من أموال الشعب، مقابل ضمانات بعدم تتبعهم قضائيا، وهذا يعتقد أنه من أعقد الإجراءات في مستوى التنفيذ في ظل وجود قضايا تم البت فيها سابقا، بالإضافة إلى محاولات اتحاد رجال الأعمال (الاتحاد التونسية للصناعة والتجارة) حماية منظوريه من مثل هذه الشروط التي يعتبرونها استهدفا لهم.

كما حمل الخطاب الأخير لسعيّد الكثير من التهديد عندما أكد على ضرورة "محاكمة كل من أجرم في حق الدولة التّونسية وشعبها، وعلى القضاء أن يقوم بوظيفته في إطار الحياد التام"، في إشارة إلى التباطؤ الكبير في التعامل مع قضايا الفساد السياسي والمالي، الأمر الذي تسبب في شبه أزمة بين سعيّد وبعض الأطراف القضائية التي اعتبرت الكلام ضغطا عليها وتدخلا في شؤونها.

كلمة الرئيس خلفت ردود فعل متباينة، بينما استقبلها بتفاؤل معتبرا أنها مواصلة لقرارات شجاعة بدأت في 25 يوليو الماضي، على غرار حزب "التحالف من أجل تونس" الذي اعتبر أن خطاب سعيد هو تعبير عن تطلّعات "أبناء الشعب لتحرير البلاد من الفاسدين والعملاء ممن تسلّلوا لمؤسسات الحكم والدولة، والذين ثبت أنه لا يهمهم الحكم إلا بقدر ما يحقق لهم من امتيازات ومصالح خاصّة"، مضيفا أن "خطاب الرئيس هو إعلان نهاية منظومة فاشلة وتهيئة أرضية قانونية وأخلاقية لجيل سياسي جديد".

في نفس الإطار عبرت حركة الشعب عن ترحيبها بالقرارات التي وردت في خطاب رئيس الجمهورية يوم 13 ديسمبر، والأجندة الزمنية المسقفة لها، مشيرة إلى ضرورة تثبيت الضمانات المرافقة لها، لكي تحظى بالقابلية الشعبية ويجنبها أي إمكانية للتشكيك فيها، داعية إلى الذهاب في إصلاحات كبرى تتجاوز عثرات المرحلة السابقة.

كما أكدت أحزاب البعث والتيار الشعبي وأحزاب أخرى، تأييدها لما جاء في خطاب سعيّد، معبرة عن "مباركتها "لجملة هذه الإجراءات بما احتوته من تسقيف زمني، وما عبرت عنه من إرادة واضحة وصلبة للإصلاح"، بالإضافة إلى ما فيها من نوايا لـ"تفكيك منظومة الفساد والإرهاب وفتح المجال أمام الشعب لإعادة بناء وطنه على أسس سياسية سليمة".

أما من استقبلها بتشاؤم فقد اعتبرها انحرافا ودوسا على الدستور "وخرقا لأحكامه وتقويضا لمبدأ الفصل بين السلط وخروجا تاما عن الشرعية وتأسيسا لنظام الحكم الفردي ولا يعد علاجا للأزمة السياسية بل تعميقا لها ودفعا بالبلاد الى المجهول في ظل احتدام الأزمة الاقتصادية والعزلة الدولية التي تردت إليها".

وعلى رأس الأحزاب الرافضة، حركة النهضة، التي تعتبر الأكثر تضررا من إجراءات سعيّد، وتخاف أن تتضرر أكثر من خلال بعض الملفات القضائية التي تخصها في علاقة بالتمويل الأجنبي وتمويل الانتخابات وتخص بعض قيادييها في علاقة بملفات سياسية وحتى جنائية تتعلق بالاغتيالات التي حصلت في البلاد في العشرية الأخيرة.

كما أصدرت أطراف أخرى ونشطاء مدنيون مواقف رافضة لقرارات الرئيس التونسي، معتبرين أن ما يحصل انقلاب على الدستور وتهديد لمستقبل الديمقراطية في البلاد، إضافة إلى احترازهم على ما يعتبرونه تهديدات في مستوى الحريات الفردية، بعد الإيقافات التي شملت بعض النشطاء لمواقفهم من الرئيس.

لكن بغض النظر عن مواقف التأييد والرفض، يبدو المشهد التونسي ضبابيا أمام حاجة البلاد إلى استقرار سياسي بشكل عاجل والتوجه نحو ما هو اقتصادي في ظل الحاجة إلى مداخيل كبيرة لا تُعرف إلى اليوم كيفية توفيرها، خاصة أن بعض الخبراء يؤكدون أن الوضع الحالي قد يتسبب في وضعيات لم تعرفها البلاد من قبل وقد تمس حتى القطاعات الحيوية وعلى رأسها مرتبات الموظفين، وهذا ألمحت إليه رئيسة الحكومة نجلاء بودن في حواراتها مع الاتحاد العام التونسي للشغل (نقابة الشغالين).