لقد اختزلت المؤسسة الثقافية المغربيّة إلى مجرد مجموعات تنظيمية صغيرة متكررة ومكرورة، حدودها ومستوى تمثيلها الثقافي (إدارياً) لا يتعدى تنظيم تظاهرة أو مهرجان... وأحياناً بلا أي استراتيجية فنية، لذا يكفي حصرها بالرجوع إلى أساليب تنظيمها وضمن تسلسل تعريفها القانوني، إن كانت تحمل تصنيفاً جهوياً أو على شكل عرفان بالجميل لشخصية أدبية أو فنية ذات أثر، أو بتصنيف إداري، تعتصم به الإدارات الثقافية المغربيّة وتؤكد على وجودها به، ومن ثم تتبعها المؤسسات والجمعيات المدنية الأخرى والتي عادة ما تجزء نشاطاتها الاحتفالية إلى جزأين، الأول يهتم بالتصفية والآخر بالتتويج، ناهيك عن بعض التظاهرات والاحتفاليات المرتجلة مجهولة المصدر، إذ ينصب اهتمام المجموعات التنظيمية لأي حدث فني وثقافي على إظهار حسن الملتقى وكرم الضيافة وتكريس الطبائع المحلية لجهة زوارها، وحيث أن أمر إظهار قدرتنا على الاستضافة لا يخلو من إبهار ومن حشد لكل الطاقات الرسمية والإبداعية التي تزخر البلد بها من شخصيات اجتماعية وسياسية، نجوم ومثقفين، لكنه بذات الوقت ضيق الهاجس الجماهيري ووجهه فقط نحو بلوغ حفل الافتتاح والختام... 

لم لا وكل تلك المغريات النخبوية تجتمع في مكان واحد، هذا إن تجاوزنا الفهم المتضارب حول وجود حالة جماهيرية أصلاً، ومن ناحية أخرى يؤدي أي شكل احتفالي وبأي شيء دوراً بارعاً في استقطاب الثقة والشعبية لأنه مؤلف بعوامل الإيجابية والشعور الحسن، وحيثما وجدت هذه الأرضية حلت الحقيقة المواربة التي ليس لها من هوىً إلا التأكيد على الشكل فضلاً عن المضمون، الطامة الكبرى داخل هذا الإيهام المنظم أن كثراً ممن يحسبون على الحياة الثقافية المغربيّة ويحتسبون لها ويحيون في حسبانها، مأخوذون بهذا الإيهام، وهم بعلم أو دون علم يعاودون التأكيد على أزمة فعل أخذت تنال (وبنعومة) من الحياة الثقافية المغربيّة، من خلال (مسرحة) منظمة للفعل الثقافي وذلك عبر ربطه دوماً بحالة من البهرجة والاحتفاء ذي الصبغة الموسمية. 

هذه الإحالة الزمنية جمدت المفهوم المتشعب لحركة الفعل الثقافي، وجعلت منه كتلة ساكنة يمر عليها الزمان من المهرجان إلى المهرجان، ولهذا التجميد ماله من مضاعفات عدة، أهمها تنميط جمهور المشهد الثقافي المغربي، فقد بدأ يأخذ هذا الجمهور شيئاً فشيئاً بعداً طبقياً، انمحقت به طبقة على حساب طبقة أخرى لا هم لها ولا شأن سوى التلميع الاجتماعي والنفاذ إلى عالم الأضواء.

إن استعمالنا لمصطلح (مسرحة) وإلزامه بالفعل الثقافي ككل قد يكون مخرجاً تعبيرياً مناسباً يساعد في تفكيك مكونات المشهد الثقافي المغربي ويخلق فهماً أكثر اتساعاً، لإدراك أبعاده وإيقاعه، فالاختزال وتجاوز العوامل الزمنية والمكانية، كذلك التكثيف وأولوية النتيجة، كلها تفسيرات تصب في مصلحة غرض الاستعمال، ليس في تأويلاته الفنية بل (المصطلح) في حقل التعريف الواقعي لحقيقة وجود فعل ثقافي أو لا، فكل من تلك التفسيرات تقف في حالة تضاد مع مؤسسة (الفعل)، لأنها صور عن الفعل وليس الفعل الحقيقي، جل دورها، أخذ مكانه، استبعاده، ثم الإيحاء المستمر بوجوده، لكن الحق أنه معطوب ومشلول، لذا وجب تكريس تغذية مضاعفة للظواهر والتظاهرات، الاحتفالات والمهرجانات الثقافية، لكن ما هي إلا قطعة السكر تلك التي تسكت الطفل المفجوع بموت أبيه.

هذه (الشرطية) المفرطة في التعامل مع المشهد الثقافي المغربي، والدعم الساذج اللا محدود من جموع المثقفين لها، كلاهما أسهم في تثبيت إطار ثقافي مشغول بشتى أنواع الهرج والاحتفال، لكنه إطار لا صورة فيه، تلك الصورة التي يجب أن تمثلها مؤسسة الفعل الثقافي وأن تسعى إلى كمالها، باعتماد استراتيجيات متنورة تكون مستعدة أيضاً لتغيير هذه الاستراتيجيات ذاتها، تلبية لطبيعة الحركة المجتمعية المتغيرة باستمرار، وكخطوة أولى لابد من أن تنتصر للفرد (للإنسان) وتبني استراتيجياتها الثقافية نحوه، ومتى حدث ذلك سيحتاج المسؤولون والقائمون على صناعة الفعل الثقافي إلى الكثير من الشجاعة للاعتراف بأن هذه العقلية الغائية والمعنوية التي سيرت الشأن الثقافي نفراً من السنوات قد كرست الشكل منه فضلاً عن المضمون الذي يمثل هنا جوهر العمل المؤسساتي.

 ويمكن أن يسحب هذا على معظم الأنواع التعبيرية، التي تشتمل عليها الحياة المغربيّة، في المسرح وفي السينما، في الكتابة، في الرقص والأغنية، وكأن الغاية من وراء كل هذه البهرجة والطبل والزمر فقط للتأكيد في كل مرة على وجود نشاط ثقافي مبرمج ومخطط له وعلى أعلى المستويات، لكنه يبقى وجوداً ناقصاً طالما أنه لا يقرن نفسه بالسؤال البسيط، لماذا هو موجود؟ وبالنسبة لمن؟

إن كل ما ينتمي إلى دائرة المعارف الإنسانية بمدلولاتها وما توحي به من مضاعفات تعبيرية يتصل بشكل لا مواربة فيه بالحركة الإنسانية ضمن نطاقها المجتمعي، وتأتي مكانة هذه المعارف داخل مجتمعها على توصيف دقيق لأهلية المؤسسة المسئولة في الشأن الثقافي وأين يقف جمهورها بالنسبة لها، لكن أكثر خدمة تؤدى من تحديد مكانة المعارف الإنسانية هو أنها انعكاس صريح لأهلية المجتمع نفسه في تحديد موقف حيال هذه المعارف، والمدى الفعلي لوجودها كمطلب وحاجة اجتماعية، وعليه لا يمكن التبشير بتطور أي اتجاه من هذه الجهات المعرفية التعبيرية أن هي صدرت عن مجتمع متخلف، لا بل من الصحي أن تأتي أشكال التعبير ملائمة لبيئتها وأن تنتمي إلى ذات الدرجة من التخلف أو التطور وكل ما هو فوق الدرجة أو تحتها سيظل رهناً بالتجربة نفسها.

إن ما يعاني منه الشأن الثقافي المغربي يبدأ من المؤسسات الراعية له وينتهي عندها، لأنها لم تزل تمارس تكريسها لأنماط تعبيرية تطفو فوق الواقع الحقيقي وقد لا تشبهه بشيء إلا بجنسيتها، أنها مستمرة حتى الآن بخلق واقعها الخاص (المفترض) عن المجتمع المغربي، في مقابل تجاهل المشكلات الأساسية التي تمهد لخلق حراك ثقافي متنوع يتقدم في مساره الطبيعي ينتمي إلى قضاياه ويعبر عنها، إذ لابد من حل لأزمة التأليف المسرحي، ومن تفعيل الأنواع المسرحية عبر تصميم المنشآت المسرحية وفقاً لوظيفتها النوعية وليس وفقاً للكلفة، كما ويجب الالتفات إلى فنون الهواة والتوقف عن النظر إليها كصنف ثالث.

الفهم الجزئي الذي يمكن تحصيله وراء كل هذا الاحتفاء بما يتيسر من أنشطة ثقافية أنجزت وكأنه تمويه على الركود الذي تعانيه الحياة الثقافية المغربية، ولمنح بدائل الفعل شيئاً من السترة لتسهل حركتها بين الأماكن والمستويات فتقلل أو تزيد من دواعي البهرجة حسب مستوى الاعتبار والتمثيل البرتوكولي وبمسميات جديدة كل مرة... الحياة الثقافية المغربية تعاني من (افتعال) سببه انقطاع الفعل عن زمن حدوثه، فلقول (الفعل الثقافي المغربي) لابد لهذا الفعل أن يصدر عن مؤسسته مندرجاً في برنامج يغطي العام كله، وأن يكون متسماً بالديمومة وأن يمتد مع ما سبقه من تجارب، بل وأن يحمل نبوءات، حسب نوعه واتجاهه، وأي تظاهرة أو مهرجان هي حصيلة انتقائية لعمل بزمن متكامل. 

إذاً، لا عجب من أن تصير المؤسسات الثقافية مجرد ديكورات جامدة طيلة العام تدب فيها الحياة قبيل موعد مهرجانها بأشهر وأحياناً بأسابيع، مما تقدم وإن أثبتته الأيام، ستظل البدايات الجديدة قرينة بالحياة الثقافية المغربيّة وسيظل كل نشاط قائماً بنفسه ولنفسه، لا ممتداً مع شيء ولا متنبئاً لشيء، وسيظل البعض من المثقفين والفنانين والأدباء غافلين يتقلبون على جوعهم في انتظار أن ينضج الحجر.


كاتب صحفي من المغرب