تكتوي قلوب الجزائريين اليوم بنيران حرائق الغابات المندلعة، نظراً لما تمثله هذه الثروة الغابوية من قيمة اقتصادية وبيئية واجتماعية وتراثية وحضارية، وفي هذا السياق، أعلنت الجزائر حالة الحداد في البلاد بعد ارتفاع حصيلة ضحايا الحرائق إلى 65 وفاة، كما أكدت تجنيد كل إمكانياتها للسيطرة على 99 حريقاً اندلع في 14 ولاية، وأنها ستلاحق المسؤولين عن إشعالها. وذكر التلفزيون الرسمي في خبر عاجل الأربعاء 11/08/2021 "ارتفاع حصيلة ضحايا حرائق الغابات إلى 65 ضحية من بينهم 28 عسكريا و37 مدنياً، أغلبهم في ولاية تيزي وزو"، مضيفا أن "12 عسكرياً في حالة حرجة بالمستشفى". وللأسف الشديد فقد تعرضت غابات الجزائر أوائل الشهر الماضي، لعدة حرائق (أغلبها بولاية خنشلة في أقصى شرق البلاد)، وشكلت أرقام الخسائر صدمة للساكنة، حيث تمّ تسجيل 8500 هكتار خسائر حرائق الغابات منذ بداية يوليو الماضي، وهو ما فاق بكثير ما تم تسجيله خلال نفس الفترة من العام الماضي. وتشهد الجزائر حرائق غابات سنويا، وقد أتت النيران عام 2020 على حوالي 44 ألف هكتار.

المؤكد أنّ الحرائق التي تطول الغابات والأحراج تقضي على التنوع البيولوجي ومئات الأنواع والأصناف من الأعشاب البرية والنباتية، ولاشيء يوازي خسارة تعادل خسارة الغابات فهي تحتاج مئات السنين لتعويض الفوائد المتعددة التي تقدمها في مجال البيئة، حيث إن هكتاراً واحداً من الأشجار يمتص حوالي 5 أطنان من ثاني أوكسيد الكربون هذا بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية وغيرها، لكن بعض السفهاء يفتعلون الحرائق لقتل الرئة الجزائرية والإساءة للبشر والشجر والحجر، ويلحقون الأضرار المجتمعية والاقتصادية وزيادة الأعباء والتكاليف على موازنة الدولة.  وفي هذا الصدد قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن السلطات ستجند كل إمكانيات الجزائر المادية والبشرية للسيطرة على النيران، التي اندلعت في 14 ولاية، فيما قال الوزير الأول الجزائري أيمن بن عبد الرحمن إن "أيادي إجرامية" ليست بعيدة عن الحرائق"، موضحاً أن بؤر الحرائق على مستوى ولاية تيزي وزو، التي تعد الأكثر تضرراً، تم اختيارها بدقة متناهية، نظرا لسرعة انتشار النيران وصعوبة وصول وسائل الإنقاذ إليها.

المؤكد أنّ أغلب الحرائق التي تشهدها الجزائر اليوم، هي بفعل فاعل كما أشارت التحقيقات والمعطيات، وهي بقصد التخريب وإلحاق الأذى بالغابات والأحراج والأشجار المثمرة، هؤلاء المجرمون استباحوا كل القيم الوطنية والأخلاقية والدينية والمجتمعية، يريدون تحويل كل شيء إلى اللون الأسود وإزالة اللون الأخضر. ولتأكيد المؤكد، فقد صرح وزير الداخلية الجزائري كمال بلجود: "إن جميع الأدلة الأولية لحرائق الغابات تشير إلى أن وراءها أيادي إجرامية، بالنظر لاشتعالها في توقيت واحد". وبدوره أكد الوزير الأول اعتقال 3 أشخاًص من قبل مصالح الأمن بولاية المدية جنوبي العاصمة الجزائرية لضلوعهم في الحرائق التي اندلعت بالمنطقة، مشدداً على أن الدولة لن تتسامح مطلقاً مع المتورطين وستفرض عليهم أقصى العقوبات.

إنّ هؤلاء الذين يحرقون الغابات، يجسدون بأعمالهم المعاني العكسية للحكمة الصينية التي تقول: "إذا أردت أن تزرع لسنة فازرع قمحاً، وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجراً، أما إذا أردت أن تزرع لمائة سنة فازرع إنساناً"، ويقول سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِين وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"، وفي سفر التكوين ذكرت شجرة الزيتون كدلالة على نهاية الطوفان مع "نوح" عليه السلام من خلال علامة حسيّة ألا وهي ورقة زيتون حملتها حمامة إلى السفينة دلالة على أن المياه قد قلّت عن الأرض، وترمز إلى أول شجرة قاومت الموت والفناء والطوفان. أما الإمام علي، إمام البلغاء فيقول: اتّقوا الله في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم" فدقّق في هذا الكلام العميق، الذي يشمل "العباد" كأعلى قيمة فوق ظهر هذه الأرض، و"البلاد" بكل جغرافيتها. البلاد ذلك البستان الربانيّ الذي هيّأه الله لإقامة مَن سمّاه خليفة، ولم ينس أنّنا مسؤولون حتى عن "البقاع والبهائم"، البقاع على تنوّعها، والبهائم على تعدادها، يقول إنّنا مسؤولون، بمعنى أنّ ذلك مسؤوليتنا في هذا العالم، وسوف نُسأل عن صيانة هذه الأمانة بين يدي مَن لا تخفى عليه خاقية.

انطلاقاً من ذلك وتلافياً لتكرار حوادث الحريق وتجنباً لخطر العابثين والمتربصين بتلك الثروة الاقتصادية ولحماية الغابات والمواقع الحراجية، يجب إنشاء وزيادة محطات المراقبة ضمن هذه الغابات وتزويدها بكل ما يلزم من كاميرات للمراقبة، وفرق الإطفاء ومعداتهم وصهاريج المياه والبلدوزرات وأجهزة الاتصال السلكية واللاسلكية، وإنشاء طرق تفصل الغابات عن أراضي المواطنين وتعيين خفراء وحراس وعمال يكون عددهم كافياً، وهدفهم المحافظة عليها وحمايتها وليس الحصول على فرصة عمل فقط، وإصدار قوانين رادعة ضد كل من يسيء للغابات، والإسراع في التحقيقات لتحديد المسؤول أو المسؤولين عن هذه الحرائق والمستغلين للثروتنا الحراجية الطبيعية، وعدم تسجيلها بأنها من سائح أو سكران أو مجهول، أو تماس كهربائي... لابد من وضع استراتيجية فاعلة للتصدي لظاهرة الحرائق، لا سيما وأن حرائق الغابات تمثل كارثة بيئية لما تسببه في القضاء على الأنواع النباتية والحيوانية، فضلا عن القضاء على المنتجات الخشبية والإضرار بالاقتصاد الوطني، وبالقيم الجمالية والسياحية لتلك المناطق.

خلاصة الكلام: يجبُ أن يتعاطى المسؤولون بالجزائر، مع كارثة الحرائق المُتنقلة والمُتكررة، وإنّ الاعتراف بالمُشكلة يُمثل نصف الحل، إذ لا بُد من نَشر الوَعي لدرء المَخاطر، لا بُد من الكَشف عن المجرمين ومُحاسبتهم، فالتشدد بالعقوبة في مثل هذه المطارح مسـألة غاية في الأهمية، وهي احترازية للحيلولة دون وقوع الجرم، وهو ما يهدف إليه أي قانون، وفي مثل هذه الحالات التشدّد ليس مطلباً رسمياً فقط، بل هو جماهيري أيضاً للقضاء بشكل تام وكامل على أي محاولة للاعتداء على الثروة الغابوية والحراجية، وتالياً قطع الطريق على أي عابث أو طامع أو تاجر عن الغابات الجزائرية، لأنها ثروة وطنية لا يجوز التفريط بها والمساومة عليها.

كاتب صحفي من المغرب.