في الزمن الصعب تونس استجارت بجوارها، وكعادتها دائماً هبت الدول المغاربية للمساعدة بعد أن طوق فيروس (كورونا المستجد) تونس التي شهدت موجة وبائية غير مسبوقة تميزت بانتشار واسع للسلالات المتحورة ألفا ودلتا، في جل ولايات الجمهورية، فامتلأت أقسام العناية الفائقة، وشارف مخزون الأوكسجين الطبي على النفاد، وأرهق الأطباء... ما دفع المتحدثة باسم وزارة الصحة التونسية أن تعلنها صرخة مدوية، "أنّ المنظومة الصحية في تونس انهارت..." وعلى الرغم من كل الظروف التي تمر بها البلدان المغاربية، إلا أن ذلك لم يمنعها أن تدعم تونس الشقيقة وتقف إلى جانبها لمواجهة جائحة كورونا وتداعياتها، وسارعت لتلبية احتياجات التوانسة من الأوكسجين  واللقاحات، وأطنان من المساعدات الطبية من أجهزة ومعدات، لإنقاذ المواطنين وتخليص القطاع الصحي التونسي من كارثة. إنّ جائحة كورونا أبرزت أن مواجهة المخاطر والتهديدات العابرة للحدود وتداعياتها المستقبلية، لا يمكن لدولة بمفردها أن تواجهها مهما بلغت قوة إمكاناتها وقدراتها، فالأمر يقتضي قدرا من التنسيق والتعاون على المستويين الإقليمي والدولي.


علينا أن نعترف، أنّ الأزمات امتحان لكفاءة الحكومات، تجعل الأنظار تتجه لمؤسسات الدول لكونها الجهات المؤهلة أولاً للإنقاذ، فالدول بمؤسساتها، هي الوسيلة الشرعية لتوفير الأمن الجماعي والصحة العامة والتي يجد فيها المجتمع الأمان والملاذ الآمن، وفي الأزمات يحكم على مؤسسات الدول، نجاحها أو فشلها في تنفيذ خطط الطوارئ، وخلية الأزمة تهيئ لإدارة كل الاحتمالات. إن عملية تحريك أبراج الاستشعار لاستكشاف الأزمات قبل حدوثها يمثل بُعدا استراتيجيا، بخاصة وأن العالم الآن أصبح مفتوحاً، فما يحصل في أي بلد قد ينتقل إلى عدة بلدان أو قد تتأثر به على أقل تقدير.
 
ويشير المختصون والعلماء إلى أهمية ما يسمى الاستثمار في الوقاية لمواجهة الأزمات، وتحضرني هنا مقولة بنجامين فرانكلين الشهيرة: "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، التي وردت في رسالته إلى سكان فيلادلفيا الأمريكية عن كيفية تجنب حرائق المنازل التي كانت تتسبب في دمار واسع.


أزمة كورونا تختلف عن غيرها من الأزمات، إذ لا توجد جبهة قتال واحدة، والحكومات مضطرة لإدارة حياة الناس، وتوفير الإمدادات الغذائية، إدارة المستشفيات، والحجر على الآلاف، وتدبر الموارد المالية وغيرها... بالطبع، لكل بلد اعتباراته التي يبني عليها قراراته والمعلومات الدقيقة ضمانة لنجاح القرارات، وتبقى كفاءة الحكومات وفعاليتها عند التنفيذ، بالمقابل وباء كورونا ومتحوراته، كشف عن حدود إمكانيات الدول المغاربية والأسواق وبين خطوط الصدع في المجتمعات، بعدما وصلت وزارات المالية إلى أقصى حدود ميزانيتها العاجزة. 


وتُظهر التجربة الصعبة التي تمر منها تونس، الحاجة القوية لمتابعة التعاون المغاربي في مجال الأمن غير التقليدي، فبدون تعاون مغاربي، سيكون من الصعب على بلداننا، ليس فقط التغلّب على التحديات الحالية للوباء، ولكن أيضاً في اتخاذ تدابير فعّالة للتعافي بعده، تهديدات الأمن غير التقليدية مثل الأمراض المعدية والكوارث الطبيعية وتغيّر المناخ والتدهور البيئي، والهجرة غير المشروعة والفقر والإرهاب الدولي والجرائم المنظمة الدولية، من بين أمور أخرى، هي ذات طبيعة عابرة للوطنية، وبالتالي، لا يمكن لدولة بمفردها، حتى الأقوى أو الأغنى، التغلّب على مثل هذه التهديدات من خلال العمل بمفردها، ولكن من خلال العمل معاً، يمكن لبلداننا مجتمعة أن تفعل الكثير للتغلّب على هذه التهديدات العابرة للحدود. وتتطلّب معالجة التهديدات الأمنية غير التقليدية التعاون الجاد من جميع الدول، فالانخراط في نزاع القوى الدولي يؤدي إلى نتائج عكسية في مكافحة التهديدات الأمنية غير التقليدية، فالعالم بحاجة إلى تطبيق نموذج للعلاقات الدولية يدعم الأهمية الكبرى للتعاون في مجال الأمن غير التقليدي، ومن دون تعاون دولي، ستستمر التهديدات الأمنية غير التقليدية وتزدهر وتنتصر على حساب رفاهية جميع الشعوب، لذلك، من الضروري جداً للاتحاد المغاربي أن يبني فريقاً قوياً لمواجهة هذه التهديدات. من هنا أصبح العمل الجماعي المغاربي أمراً حتمياً للتغلّب على التهديدات الأمنية غير التقليدية لأن ''العمل الجماعي يقسم المهام ويضاعف النجاحات''.


إن التهديدات الأمنية غير التقليدية هي غير عسكرية بطبيعتها، وبالتالي، هناك حاجة إلى تعاون مغاربي ـ دولي لتطوير مناهج مبتكرة غير عسكرية لمواجهة هذه التهديدات، بينما لا تزال الجيوش المغاربية تلعب دوراً حيوياً للغاية في مكافحة التهديدات الأمنية غير التقليدية، لا يزال بإمكان الجيوش القيام بذلك في وظائفها غير التقليدية، مثل منع النزاعات المسلحة وبناء السلام وصنع السلام وحفظ السلام بدلاً من الاقتتال، كما أن هناك حاجة إلى تعاون دولي لبناء قدرة جميع الدول، ولاسيما تلك الأكثر تضرراً، لتكون لديها مؤسسات قوية وفعّالة ومرنة لمواجهة جميع تحديات الأمن غير التقليدي، وحاجة إلى تعاون دولي لتعزيز قدرة المؤسسات الحكومية على منع التهديدات الأمنية غير التقليدية لإحداث الفوضى في المجتمعات، والأهم من ذلك، هناك حاجة إلى تعاون مغاربي ـ دولي لتعزيز القدرة على إدارة عواقب التهديدات الأمنية غير التقليدية. 


اليوم يواجه العالم أزمات كبرى، حروباً، وإرهاباً، وكوارث طبيعية، ووباء كورونا وأزمات مالية، وهذه الأزمات يمكن أن تودي بحياة ملايين من البشر، وتكبد العالم خسائر مالية هائلة، في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، والبحث يبين لنا أن الاستعداد للأزمة والتنبؤ، يحتاج إلى الإعداد الفعلي والحقيقي والجاد للاستعداد لما قد يحدث والتعامل مع ما حدث في حال ثبوت التنبؤ وليس فقط التنبؤ بحد ذاته، لهذا لابد من وضع مؤشرات لنظام الإنذار المبكر في إدارة الأزمات والتنبؤ بها والتي هي عبارة عن القدرة على استيعاب الإشارات المتعلقة باحتمال حدوث الأزمات، مما يمكن من اتخاذ التدابير لتجنبها. 


وعليه، فإن التعاطي الواعي مع تأثيرات جائحة كورونا ومتحوراتها، أو الأوبئة أو الأمراض أو الكوارث الطبيعية المستقبلية، يتطلب صناعة مواطن الأزمات ببلداننا المغاربية، في ظل المعطيات الحاصلة في الشأن الوطني المغاربي والتوجهات الاقتصادية لصناعة اقتصاد الأزمات، تجسيد عملي للعيش الواعي المسؤول في ظروف متغايرة ومواقف حياتية متباينة، وعبر سلسلة من الأجندات والإجراءات والآليات التي تضع قطاعات الدول المغاربية المختلفة، التعليمية والاجتماعية والإعلامية والاقتصادية وغيرها أمام مسؤولية إعداد جيل الأزمات، وصناعة مواطن مغاربي معتمد على نفسه، يمتلك حس المسؤولية، ويعلي من قيمة العمل، ويبتكر الأدوات التي يواجه من خلالها التحديات، ويقف فيها مع بلده في كل الظروف والأحداث برباطة جأش وعزيمة إرادة، وقناعة صادقة، وضمير حي، ونهضة فكر، وحسن سيرة، وسلوك متزن، وحس مواطن وولائه وانتمائه، وتوظيف الخبرات، وترقية الممارسات، وتثمير الابتكار والاختيار الواعي، والتعامل مع الواقع المتغير بروح متجددة وفكر مستنير وثقافة واعية، وأن يمتلك فرصا أكبر لإدارة الأزمات وبناء أخلاقياتها وصياغة المفاهيم والأفكار والمبادئ التي تحدد معالمها، وتبرز في الوقت نفسه خصوصية المجتمع في التعامل معها، فقد يشترك العالم في الكثير من الأزمات والأحداث والجوائح، كما هو الحال في جائحة كورونا ومتحوراتها، التي وسعت العالم كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه، أو كذلك ما يتعلق بأزمة انخفاض أسعار النفط التي يشترك فيها مع محيطه الإقليمي والعالمي، ويبقى التميز في التعاطي معها والمنافسة في سبر أعماقها وتوظيف مؤشراتها الإيجابية السلبية على حد سواء، مرهون بقدر ما يمنحه المجتمع لها من وعي وإدراك ومسؤولية في إدارتها لصالح تقدمه وتحسين إنتاجه وإعادة إنتاج واقعه والتثمير في الأزمة اقتصاديا وأمنيا وتنافسيا وحضورا عالميا في ما يقدمه من اختراعات وابتكارات وغيرها. 

وبقراءة ميدانية موضوعية، لا فرصة أمام الدول المغاربية لمواجهة أزمات وتحديات كبيرة تضربها في الوقت الحاضر، إلا لملمة أوضاعها وتنشيط ذاكرتها التفاوضية، باتجاه حلول تضامنية حتمتها جائحة كورونا وجوائح أخرى مستقبلية، وصدق مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق هنري كيسنجر حينما قال: إن هذا الوباء سيغير العالم إلى الأبد، وهو في ذلك محق، إذا أخذنا بواقع المستجدات التي أحدثها سلبا في البيئة والاقتصاد والعلاقات البشرية اليومية والتعاطي المعرفي وحجم المخاوف التي راكمها... إن العلاقات بين الدول المغاربية يجب أن تسودها روح التضامن والأخوة، وينبغي التخلص من تبعات الماضي والاختلافات التي عصفت بالعمل المغاربي المشترك وضربت التضامن المغاربي في مقتل، فلابد من توفير أرضية صلبة بين الإخوة ببلداننا المغاربية، لإزالة تلك العوالق والخلافات السياسية، والنظر للمستقبل بنظرة إيجابية تسودها الرغبة في البقاء بين الأمم بشكل مشرف بامتلاك التأثير، وهذا لن يحدث طالما لم نمتلك مشروعنا المغاربي الجماعي الذي يتلخص في وحدة الموقف المغاربي، وبناء القدرات المغاربية وعوامل النهوض العلمي والصناعي والعسكري، وتعزيز التعاون والتضامن المغاربي.


 إن الحالة المغاربية التي نعيشها اليوم تتطلب التفكير فيها بعناية لا الارتماء في أحضان القوى الغربية، بل يجب التعامل معها بندية واعتماد المشروع المغاربي المتضامن المعزز بعوامل النهوض، وإلا فقد تمر هذه العاصفة على ما تبقى من بلداننا، وبالتأكيد لن يتوقف الاستهداف لهذه البلدان، وهذه من البديهيات المسلمة التي لا يمكن تجاوزها، وبالتالي فإن البحث عن الذات المغاربية يكمن في قيام مشروع مغاربي متكامل لا ينصهر في مشاريع إقليمية أخرى، بل التعاون معها فيما فيه صالح المنطقة عموما، وبناء جسور التعاون مع الأطراف الإقليمية أو الدولية بندية وفق آليات وأدوات المشروع المغاربي ومصالح الأمة العربية.


إن المرحلة الراهنة تتطلب التعاضد والتعاون والمصارحة والمصالحة، ضمن رؤية مغاربية شاملة، لكن الذي ينقص صانع القرار المغاربي، على مدى سنوات هي الإرادة السياسية، وسرعة اتخاذ القرار الذي يصب للمصلحة الجماعية المغاربية، بعيدا عن الحسابات الضيقة، وهو الأمر الذي أوصل دولنا إلى الحالة المعقدة الحالية، ومن هنا، فإن دول الاتحاد المغاربي، تعاني بسبب اختلاف التوجهات السياسية، وهذه معضلة تحتاج إلى إعادة النظر ومراجعة موضوعية لانطلاق الاتحاد المغاربي إلى آفاق أرحب لتحقيق آمال الشعوب المغاربية. 


نحن هنا لا نقدم الفكر السلبي الذي يضع الدول المغاربية في دوامة التضعضع المعنوي، ولكن نسمي الأشياء بمسمياتها، ونؤكد خطورتها على حاضر ومستقبل بلداننا لمحاولة الاستفادة من الدروس، لولوج مسار آمن يقود نحو مستقبل مشرف، ومن لا يمتلك مشروعا في الحياة فهو غير قابل للعيش فوق الأرض، والمهم هنا أن نتدارك الموقف قبل فوات الأوان باعتماد مشروع مغاربي حقيقي يبني عليه المغاربيون مستقبلهم، وهذا لن يتحقق إلا بامتلاك الإرادة وتعزيز ثقافة التعاون، والإرادة السياسية هي من الخطوات الحاسمة لانطلاق دول الاتحاد المغاربي من جديد وفق أهداف تخدم الشعوب المغاربية، وتكون لبنة لتعاون استراتيجي في كل المجالات، وفي ظل وجود رأسمال مغاربي مهم وفي وجود مقدرات طبيعية وبشرية لخلق نهضة مغاربية تحتاج إلى تلك الإرادة السياسية. فما يربطنا أقوى مما يربط الغرب، فمصيرنا مشترك، وعلينا التواصل والحفاظ على مصالحنا المشتركة، ودعم دولنا وأولوية الاستثمار فيها، حفاظا على ثرواتنا لبناء اتحاد مغاربي كبير في كل المجالات، مع وضع حد لفرقتنا واختلافنا.