اليوم الثاني

''أنا أبوك يا هناء.. أنا أبوك يا عائشة.. أترك لكم الفخار ولا أترك لكم العار.. الموت ولا العار.. النار ولا العار. سأقوم هذه الليلة بعملية اقتحام لحصار سرت وقد استشهد في هذه العملية.. فلا تحزن.. ولا تبكن.. زغرتي يا هناء.. زغرتي يا عائشة.. زغرتي يا صفية.. أنني استشهد في معركة أواجه فيها 40 دولة ظالمة لمدة 40 عام".

جزء من وصية العقيد معمر القذافي ليلة وداعه 20/10/2011

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

... بلغت الحرارة مداها مع بلوغ الشمس الحارقة كبد السماء.. وأخذت أشعتها المتوهجة تتدفق كألسنة نيران تحركها عاصفة غبارية أطبقت على المكان.. ومن جانب آخر خيمت عليه مسحة من الحزن العميق الذي تنفطر منه القلوب.. وتنشق له الصدور.. وأي أمر جلل مثله.. وأي خطب عظيم بمثل وصية الوداع.. يوم انقطع الاتصال بين العقيد وشعبه إلا من وراء حجاب.. أو من خلف نوافذ الزمن الغائب.. فلن يكون بعدها صوت يصل.. ولا رسالة تبلغ.. إلا آثار يحيد عنها من يحيد.. وتزل قدم من يزل.. وتثبت قلة قليلة وسط الانكسار والانحسار.. 

وهذا هو العقيد يطلب مني أن أذهب بعباءته وألقِ بها على طرف من الوطن كي يرتد بصيراً.. بعد أن رحل عنه فكيف سأواجه؟

ولازال الرجل يدير ظهره لي.. بينما وقفت أنا عاجزاً عن اأي حراك بعد أن نال مني الوهن، ولَم أعد أقوى هذه المرة، على مواصلة المسير.. وفجـأة أدار العقيد وجهه نحوي.. وقد علم بأني أدركت وصيته يوم لقاء "الزعفران"، فقام بنزع عباءته عنه وقال لي هيا أذهب بها، وأفعل ما أمرتك؟

سرعان ما تزاحمت الأفكار أمامي...يا للهول! كيف لي أن أرفض طلبه.. وبأي حجة سأقنعه.. لا.. لن أفعل.. لن أغادر.. ولن أرحل عنه.. ولن أذهب بالعباءة أبداً!

احتضنت عباءته بين يدي برفق، وظللت واقفاً أنظر إليه وقد اكفهر وجهه.. حاولت استجماع كل قواي الخائرة وقلت له بشيءٍ من الحماس أعذرني يا سيدي إن كان لي من أمر عباءتك شيئا فأن آوانها لم يحن بعد.. أعدك أن لا أخذلك حين تأتي الإشارة ولكن، يا سيدي.. دعني أقول لك أن وقتها وإن اقترب لا زلنا نراه بعيد المنال، وهي مازالت غير مستحقة لنا أمام وصيتك الواجبة..

استجاب العقيد لتوسلاتي ثم أشار إلي بيده أن اتبعه إلى ظل ظليل.. وقال لي بصوت يزرع الطمأنينة، هي نقيل فإن الشياطين لا تقيل.. ثم جلس تحت ظل شجيرة صحراوية منفردة بين كثبان الرمال، وكأنها كانت على موعد معنا، وأشار إليّ أن أجلس قبالته..

شعرت بغبطة وارتياح لحجم الثقة التي منحني إياها وأنا أجادله في عباءته.. حاولت تأمين وجودي معه أكثر حتى لا يكرر مسألة عباءته، فسألته دون اَية مقدمات عن ماهية الشياطين التي لا تقيل!

نظر إليً بعطف ثم تأوه، وقال هم طرائق قددا.. وأشكال عدة.. وأنماط مختلفة.. تجمعهم ''الدونيات''.. وتفرقهم الأهواء.. سيماهم في وجوهم من شدة النفاق.. كروشهم المتدلية تدلك على عقولهم الخاوية.. بعضهم يلدغ.. وبعضهم يلسع.. وبعضهم يرام منك مرام الثعلب.. كانوا يطوفون حول خيمتي. وكانوا لا يقيلون النهار..  ولا ينامون الليل.. ولأنهم يحسبون كل صرخة عليهم تلاشوا مع أول صرخات المواجهة التاريخية!هم كذلك، نَفَر من الذين احرقوا ملفاتهم الثورية ليلة الغارة.. وفعلوا الشيء نفسه يوم النكبة...! وحتى في ساعات الرخاء كانوا سوسٌ ينخر جسد الوطن، ومنظراً مقززاً يستفز الشارع!  

نظر العقيد في الأفق ملياً وكأنه قد سرح بخياله بعيداً، ثم قال هم أنفسهم الذين حدثتك عنهم وأنت تسألني عن سبب فراري إلى جهنم.!

ثم أضاف حتى سيف الاسلام لم يرحموه، ولَم يرقبوا فيه مشاريع ولا مصالحة ولا غد وطن يلتفون حوله.. قلت لسيف ذات مرة إنك لن ترثني.. فأنا لا أورث.. ولن ترث مني إلاً ما ورثته أنا عن آبائي وأجدادي.. قلت له يا ''سيف'' اقتفي تلك الآثار.. واعلم أن "السيل يتبع جرته" ونحن دربنا عبدناه بدماء غالية.. وأنفس زكية.. ولَم نكن في هذا التراب يوماً من الزاهدين..

يا سيف نحن ننتشل الوطن عندما يقع في العدم.. وننفخ فيه من روح النضال عندما يصيبه الشيطان بنزغ الخيانة.. يا سيف امضي فيما أنت ماضٍ فيه، وخذ الرسالة بقوة وأعرض عن المرتدين.. ولا تلتفت إلى أحد منهم..  فمن يريد المسير إلى الأمام لا ينظر إلى الخلف..

قلت له بلهفة وماذا عن الجماهيرية الثانية؟

قال لي العقيد إن الجماهيرية ليست ليبيا! بعد كل ما حل بكم لا زلتم لا تميزون بين الثورة والدولة! فالجماهيرية شمس الثورة والدولة وطن الشعب.. قضي الأمر فلا تستفتون! وأياكم والمفتنون.. الذين يقتلون فيكم الوطن باسم الثورة.. ويحرقون الثورة في أكذوبة الوطن.. لا يريدون لكم أن تكونوا من أهل الثورة ولا يكون لكم وطن!

حاولت مجاراته في الحديث فقلت له وأين سيف الاسلام من الثورة والدولة.. أليس من حقه الفرار إلى جهنم حتى يعود لنا بقبس منها ولما لم تطلب منه تجربة الفرار اليها؟

 فهم سينهشونه ولو اشتد ساعده! أنظر يا سيدي كيف استنفروا ليكيدوا له كيداً.. ويمكروا مكرهم حتى أنهم تربصوا به وأدلوا فيه دلوهم بكل شهادات الزور.. وتقولوا فيه بكل صور البهتان.. كل ذلك إرضاء لخيانتهم المفضوحة ولردتهم المعلومة.. وحتى أولئك الذين جعل منهم سيف الاسلام رجال جعلوا من أنفسهم بيادق في سوق النخاسة؟قال لي العقيد دعك منهم.. اسمعني.. وأنقل عني.. أن قدر سيف الاسلام هو أن يرفع لواء الوطن ليكمل مسيرة لا تقبل التوريث.. وإذا قيض الله له ذلك فستكون رسالة منفصلة.. يمكنكم تسميتها الجماهيرية الثانية.. أو حتى ليبيا الغد أو ليبيا اليوم.. فلا وشاح مع التسمية.. هذا شأنكم وليس شأني..

قلت له معقبا على كلامه، وبصوتٍ لازال أجشاً.. نعم يا سيدي.. هم كذلك ولو تعلم يا سيدي كيف أخذهم عشمك الجارف.. فالطاووس المزركش لازال تائها هائما وسط النيل.. ولن يغسل عاره حتى لو مكث عمره في مجمع البحرين أو أمضى حقباً.. والعميل الآخر جرفه نهر الدانوب بين بودابست وفينا.. ومازال ''السكير'' يستغيث سيدته ''الرائعة'' منتشينا، بــ ''فينو دي نابولي'' الذي ينهش كبده البالية.. وحتى ذلك القزم الذي كان يعتلي منابر الصلوات صار يبحث عن صلاة مكاء وتصدية في مسجد من مساجد ضرار الخليج.. ولو تعلم أيضا يا سيدي حال أولئك الذين اصطفوا أمام ميادين المحاكم وساحاتها وكيف مزقوا اليوم شر ممزق.. وحتى حملة الحقائب قد انفضح أمرهم..  وبانت سوءاتهم.. أعرف أنه لا يسرك حالهم ولا مآلهم ولكن هو الجزاء دائماً من جنس العمل. ثم أضفت وأما ''سيف'' فله رب يسمع ويرى فهو بأعينه ومعيته ...

ثم دنوت منه أكثر وقلت له.. وأما أنت يا سيدي..  فهنيئا لك! قد اجتباك ربك من "الغصايص".. ومنً عليك بأن أخرجك من القرية الظالم أهلها.. والتي كانت ولازالت تعمل كل الخيانات.. قرية بدلت نعمة أمنها ورغد عيشها ذلا وهوانا.. وأحلت شعبها دار البوار.. وصارت تتسول الشعوب ِالحافا..

ثم توقفت لأتأمل أسارير وجهه! وفجأة ناولني قربة صغيرة بها قليلا من الماء وقال لي خذ وأشرب من مياه الصحراء.. قد جف حلقك ويبس.

أمسكت بالقربة وشربت عن استحياء ثم وضعتها أمامه وقلت له بعد أن ذهب الظمأ وأبتلت العروق.. قل لي يا سيدي...وفجـأة ضحك العقيد ممازحاً ومقاطعا سؤالي قائلا: ظننتك تعبت ونال منك الإرهاق.. وإذ بك تسألني عن الشياطين التي لا تقيل.. ثم عن ماذا أيضا؟ 

إلى أين تريد أن تصل؟

 ألم أقل لك في السابق أنك تضع في عنقك أمانة لا قبل لك بها؟

قلت له "بلى هذا صحيح ولكن يا سيدي..   ولكن و و.

قاطعني مجددا بلطف ليذهب عني بعض الارتباك الذي ألم بي.. ثم قال طيب.. طيب استمر.. استمر!

تذكرت بأسى شديد عبارته الشهيرة "استمروا في المقاومة حتى ولو لم يصلكم صوتي"، وكيف كان لسان حالنا يقول له إذهب وقاتل أنت ورفيقك وأولادكما إنًا ها هنا قاعدون...

فقعد الجميع مقعدهم عند سيارات الإغاثة.. وساحات الهبات..  وعقود بيع الخردة.. وعطاءات بيع أسهم وأصول الدولة وقوت الشعب..  وكاميرات قنوات الأعراب...

نظرت إليه مجدد فابتسم لحماستي ثم كرر كلمة "استمر".. فهدأت نفسي وأنا أسمع كلمة "استمر" مجددا ثم توجست حيث لا أعرف كيف استمر.. وإلى أين تقودنا الخطى..

سألته وكأنني أريد تغيير وتيرة الحديث فيما لو قرأ يوماً رواية الفارس الخامس! .. ومن هو الفارس الخامس الذي يهدد بتفجير نيويورك وواشنطن ويحمل ملامح ذاك الفارس صاحب سفر الرؤيا؟ 

ضحك العقيد بسخرية عندما سمع سؤالي عن الفارس الخامس ثم قال وماذا تعلم أنت عن الفارس الخامس صاحب سفر الرؤيا؟.. 

وكما في معظم المرات لم ينتظر إجابتي فاستطرد قائلاً إن ذاك الفارس المنسوج من وهم الأساطير كان شعاره يد تحيط بها الغيوم ممسكة بالذهب كتب عليها «عند الامتحان يكرم المرء ولا يهان"..

قلت له نعم ولكن ما علاقته بكم يا سيدي؟

اجاب العقيد لقد سألني الكثيرون عن ذلك فتعمدت الا اقرأها.. حتى وهي تقدمني ''كإرهابي'' يضع قنابل هائلة الانفجار في مدينتي نيويورك وواشنطن ثم يطالب بإجلاء كل الصهاينة من فلسطين وإلا... ثم سكت وأضاف لو وجد في الأمة رجال لكانت تلكم الصورة واقع لا خيال..

لازمته الصمت لبرهة من الزمن طاف بي خيالي فوق كل القمم الخاوية.. فالرجل اليوم يراقب المشهد من عالمه الغائب ومن خارج نوافذ الزمن الذي نعيشه نحن. ولم يبقى لنا إلا سيرته التي خاض فيها من خاض وأدلى بدلوه فيها من أدلى

سألته بخيال لازال جانحا كيف يرانا هو من عالمه الآخر.. من عالم الموت الذي نفر نحن منه وهو ملاقينا لا محالة؟ ولو قيض له أن يخاطب شعبه وأمته وضمير الانسانية فماذا سيقول؟ وبأي رؤية سيطل علينا! وأي سيرة غير مدنسة وجب علينا اقتفاء آثارها؟

 فجلً السير التي كتبت عنه طالها شيئا من الدنس من حيث تدري أو لا تدري...

فمن هو الميت يا سيدي؟...