مساء الأربعاء 12 فبراير الماضي كانت أعين الليبيين متجهة نحو الاجتماعات داخل أروقة الأمم المتحدة وما تصرّح الدول الكبرى وغيرها من الفاعلين في الملف الليبي حول طرق حل الأزمة التي طال أمدها وسط تحميل للمسؤوليات بين هذا الطرف وذاك. الملفت في كل كلمات المندوبين أنها تقفز مباشرة نحو الوضع الاقتصادي وأساسا ملف النفط الذي يعتبر محرك اقتصاد البلاد ومورد الرزق الأساسي لمواطنيها، وهذا عموما متوقّع باعتبار أن الثروة النفطيّة هي الهدف الرئيسي لتلك القوى المتصارعة، قبل السياسة وقبل الأمن وقبل حقوق الليبيين.

جلسة مجلس الأمن الأخيرة تأتي ساعات قليلة قبل تاريخ 17 فبراير الذي أصبح ذكره حالة إزعاج لدى قطاع واسع من الشعب الليبي. هذا التاريخ بعيدا عن منطق العناد الذي يسير فيه أنصار "الثورة"، يعتبر اليوم سجلا أسود لا يحتاج المراقب البسيط لاجتهاد كبير ليدرك حجم الكارثة التي وصلها الاقتصاد والذي جعل من بلد في حجم ليبيا بكل ما يحمله من ثقل اقتصادي على حافة انهيار غير مسبوق تترجمه بشكل مكشوف طوابير الناس أمام المصارف وحالة الدينار وانتشار الفساد وضعف إنتاجية النفط.

تمر هذه الأيام الذكرى التاسعة لإسقاط نظام العقيد معمّر القذافي. قد يرغب البعض في تسمية الحدث بالـ"ثورة" وقد يرغب آخرون تسميته بالـنكبة، لكن الحكم بين الرأيين هي الأرقام التي تجعل الرأي الثاني منطقيا وأقرب إلى الصواب. فالسنوات التي مرّت لم تسجل إلا تراجعا على كل المستويات سواء في المؤشرات التي تصدر عن الدّولة أو في الأرقام التي تسجلها الهيئات الدّولية، وقبل ذلك وبعده يكفي النظر إلى ما يعيشه المواطنون لنعرف أن الحالة صعبة وأن السنوات التسع لم تحمل معها إلا سجلا سلبيا لاقتصاد البلاد.

النفط ... ثروة تحت رحمة التعطيل والتهريب

في تعليق سابق لها عن خسائر إيقاف إنتاج النفط خلال سنوات ما بعد تحولات "فبراير"، قالت المؤسسة الوطنيّة للنفط إن إغلاق الموانئ تسبب في حرمان الدولة الليبية من أكثر من 130 مليار دولار منذ نهاية 2014، وهي أرقام كارثية تكشف حجم الانهيار الذي وقع في السنوات الماضية.

في الفترة الأخير وفي تصريح آخر عن الحالة الصعبة ل قطاع النفط في ليبيا قال مصرف البلاد المركزي في 11 من فبراير، أن عائداته لشهر يناير هي "صفر". هكذا بالضبط جاءت التدوينة التي نشرها المصرف على حسابه بفيسبوك، وذكرت مصادر أخرى أن الخسائر التي سببها الإيقاف بلغت 1.3 مليار دولار. ربما هناك نوع من المبالغة في بعض الأرقام، لكن الحقيقة الثابتة أن عائدات النفط تراجعت بشكل قياسي بعد التطورات التي شهدتها المنطقة الشرقية وإصرار قبائل موالية للجيش بإيقاف الإنتاج في الحقول الرئيسية بسبب ما اعتبروه إهدارا لأموال الليبيين على المرتزقة القادمين من سوريا لمواجهة الجيش في معركة طرابلس.

عملية إيقاف الإنتاج لم تفرضها المعركة الأخيرة، بل عاشت ليبيا فترات متعاقبة من التعطّل خلال السنوات الماضية كلّها بسبب الأوضاع الأمنيّة المنفلتة. فالسنتان الأوليان اللتان أعقبتا إسقاط النظام، لم يمكن اعتبارهما إلا حالة من الفوضى التي سهلت للمليشيات إما بإيقاف الإنتاج أو التصرّف فيه لفائدتها وقد نجح الكثير منها في تكديس ثروات خيالية. السنوات التالية بدورها لم تكن أفضل حالا في علاقة بإيقاف الإنتاج ففي شهر أكتوبر 2013، أصدرت شركة إيني بلاغا تحذيريا من تحكم مجموعات مسلحة في ثروة البلاد ما قد يهددها بالاندثار وانتشار الفساد. وقد بقيت الحالة متشابهة بين عودة تدريجية وتراجع نسبي إلى حدود العام 2017 الذي استقرّت فيه نسبة الإنتاج بمعدلات محترمة لكنها بقيت تحت رحمة التطورات الأمنية التي أعادتها معارك طرابلس منذ أبريل من العام الماضي إلى النقطة صفر، حيث نزلت الأرقام إلى أقل من 200 برميل يوميا وهي أرقام تشبه ما يتم إنتاجه خلال الأشهر التي أعقبت العام 20111. 

ليس تعطيل الإنتاج فقط يؤثر على اقتصاد البلاد بل كان التهريب بدوره معضلة كبيرة كانت نتيجته 750 مليون دولار سنويا حسبما قال رئيس المؤسسة الوطنيّة للنفط مصطفى صنع الله، في أبريل 2018. فمنذ الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي، أصبحت ليبيا منصّة رئيسية لمهربي النفط برا وبحرا، فالفترة الممتدة بين 2012 و2016 فقط شهدت البلاد تهريب كميات تتراوح بين 21مليونا إلى 15 مليون لترسنويا على الحدود البرية الغربية مع تونس وهي فترة كانت فيها تجارة النفط مربحة للمهربين الذي استغلوا الفراغ الأمني وغياب مظاهر الدولة لتحقيق مكاسب خاصة تعدّ بملايين الدولارات. بدورها المنطقة الجنوبية كانت ساحة مريحة لتهريب النفط الليبي، حيث نشطت خلال سنوات ما بعد "الثورة" مجموعات قبلية مع مليشيات من دول إفريقية في تهريب كميات كبيرة من النفط.

سواحل البلاد بدورها كانت مجالا مربحا للمهربين، ففي مايو 2018 نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية، تحقيقا عن عمليات التهريب في ليبيا عبر المتوسط نحو إيطاليا ومالطا عبر قرية "مارساكسلوك" التي تعتبر الأقرب للسواحل الليبية. وقالت لوموند إن القرية تقع في نهاية جنوب شرق جزيرة مالطة، المقابلة لليبيا، وهي المكان الذي أغتيلت فيها الصحفية الاستقصائية المالطية "دافني كروانا جاليتسيا" في 2017 بعد أن نشرت بدورها تحقيقا عن مافيات تهريب النفط من ليبيا. وأضافت الصحيفة الفرنسية أن "عملية التهريب كانت تتم باستخدام قوارب صغيرة من منشأة تكرير في الزاوية غرب طرابلس". مشيرة إلى أن المهربين تمكنوا من كسب 80 مليون يورو في 30 رحلة، وكانت العملية تتم بالتعاون مع صيادين ليبيين.

بعد تسع سنوات... غابت الدولة فحضر الفساد

منذ العام 2012 لم تخرج ليبيا عن العشرين دولة الأكثر فسادا في العالم حسبما تنشره منظمة الشفافية الدوليّة، بل كانت في أغلب تلك السنوات في العشر مراتب الأخيرة ما يشير إلى أن الوضع أصبح في دائرة الخطر. ففي تقرير سابق نشرته "بوابة إفريقيا الإخبارية"، تمت الإشارة إلى أن الفساد تسبب لسنوات في "استنزاف أموال الدولة في مسالك غير معروفة أو غير مدروسة حيث تمت مضاعفة مراكز التوظيف الحكومي فوق حاجة وطاقة الدولة وميزانياتها بل إن مصادر رقابة داخلية أكدت أن أكثر من 100 ألف موظف حكومي يتمتعون بتوظيف مزدوج حيث استغلوا الحالة التي عليها الدولة لربط علاقات خاصة تمكنهم من توفير عائدات إضافية دون مراعاة وضعية البلاد الاقتصادية وكان المصرف المركزي في إحصائيات قدمها خلال السنوات الأخيرة قد أكد أن تلك العمليات تسببت في إرهاق الميزانية العامة للدولة التي تدفع سنويا ما يتجاوز 5 مليار دولار رواتب حكومية تقليص قيمة الاحتياطي المالي دون 30 مليار دولار بعد أن كان قبل سقوط النظام يتجاوز 150 مليار دولار".

قطاع النفط أيضا تلحقه تهم الفساد، سواء في استغلاله من طرف المسؤولين عنه لمصالح شخصية، سواء في استغلاله لأهداف سياسية بعيدة عن مصالح الشعب، وما الأخبار التي تتحدّث في الأشهر الأخيرة عن دفع مبالغ كبيرة من عائدات النفط إلى المليشيات المسلحة في طرابلس أو للمرتزقة الأجانب الذين جندتهم تركيا لفائدة حكومة الوفاق في صراعها مع الجيش، وهو السبب الرئيسي الذي جعل مجموعات قبلية توقف عمليات الإنتاج في الحقول الرئيسية شرق البلاد.

السفارات الليبية في الخارج بدورها كانت قاعات لتبذير الأموال لسنوات، حيث ذكرت مصادر مختلفة أن البعثات الدبلوماسية استغلت مواقعها لصرف أموال على غير الصيغ القانونية. ومن بين الملفات ما نشرته الوزيرة السابقة فاطمة الحمروش حول أموال كبيرة أنفقت في السفارة الليبية في بريطانيا بين أعوام 2011 و2015 دون أن يكون لتلك الأموال أثر واضح. وأشارت الحمروش "إلى أنه تم خلال تلك السنوات، صرف مبلغ 74 مليون جنيه استرليني (حوالي 140 مليون دينار) بطرق مشبوهة من بينها تخصيص متبات لدبلوماسيين لا يقومون بأي خدمة في السفارة. كما أضافت أن السلطات الليبية خصصت 10 ملايين دولار لفائدة المكتب الصحي بإيرلندا، لم يصرف منها إلا ثلث المبلغ تقريبا (بين 3 و3.5 مليون دولار)، أما بقية المبلغ فقد اختفت وتم إقفال المكتب وإيقاف مرتبات العاملين به دون سند قانوني، مؤكدة أنه لم تتخذ أي إجراءات للمحاسبة إلى اليوم."

سفارات ليبيا في القاهرة وتونس وهولاندا ودول أخرى هي أيضا تلحق المسؤولين فيها تهم بتبذير الأموال ما يؤشر على أن الفساد في البلاد أصبح منذ أحداث 2011، أشبه بثقافة مست قطاعات واسعة في الدّولة الأمر الذي يفرض تطبيق القانون رغم الأوضاع التي تعيشها البلاد تؤكّد أن معركة الفساد مازال أمامها وقت ليتم النجاح فيها.