"إنني لا أستطيع أن أجعل تجربتي تأخذني بعيدا عن ليبيا، إنني أجمع كلمات من أرصفة العالم وأجثو على ركبتيّ لكي أرصفها في الخيوط ثم أعرضها للبيع بالتجربة. أنا يربطني بوطني قلبي وساعي البريد". بهذه الكلمات افتتح المؤرخ سالم الكتبي رسائل الصادق النيهوم "نوارس الشوق والغربة"، ليقدّم من خلالها صورة الرجل في علاقة بوطن غادره جسدا نحو الغربة والموت، لكن لم يغادره قلبا وروحا، فكانت سطوره دائما إحالة إلى الوطن الذي تعلّق به وبقي منحوتا في ثنايا حياته التي كانت قصيرة، حتى وهو يتجوّل بين دول العالم التي عاش فيها إلى أن رحل.

الصادق النيهوم حالة خاصة في المشهد الثقافي الليبي أو هو "موهبة مسكونة بالنار" كما يقول الكتبي، هو مفكّر بالدرجة الأولى، نهل من الأدب والفلسفة واللغات والإسلاميات، لكن قبل ذلك هو كاتب ومثقف وصحفي حيث كانت الصحف الليبية في موطنه الأول بنغازي مجالا خطى فيه خطوته الأولى في الكتابة أواخر الخمسينات من القرن الماضي، ومنها عرف الدربة على القلم الذي جعله نجما في سماء الفكر في ليبيا.

المجهود الذي بذله الكتبي في تجميع رسائل الصادق النيهوم بالتأكيد هو إنجاز في حد ذاته لأن لولاه ما عرف المثقفون القيمة الأدبية والمتعة التي حملتها. هي مجموعة من الورقات التي احتوت كثيرا من الأدب والعاطفة، كتب، عبر صحف ليبية قبل نصف قرن في أسطر موجهة لصديقه الشاعر والصحفي رشاد الهوني، ثم رسائل خاصة إلى عدد من رفاقه وأصدقائه وهو بعيد عن الوطن وكان لها الفضل في أن يعرف الليبيون والمثقفون شخصية النيهوم وقدرته الكبيرة على الكتابة. ويقول الكتبي أن عددا مماثلا أو يفوق كان يرسله إلى أهله وعائلته لكنها ضاعت مع الزمن وإلا لعرفنا أيضا أشياء أخرى فيها.

الرسائل منتصف القرن الماضي كانت وسيلة الارتباط بالوطن والأحبة. كانت تنشر عبر البريد وعبر الصحف التي كانت موضة المثقفين في زمن مازالت الوسائط الحديثة لم تأخذ حضها إلا في جزء من العالم. والصادق النيهوم كان من ذلك الجيل الذي ضاقت به الغربة ولم تملأ له فراغاتها إلا الرسائل، فهو الشاب المتجوّل بين أكثر من بلد وثقافة، والباحث عن روح تحمل أماله الكثيرة في عالم مثالي لم يجده رغم تطوّر المدن التي زارها وجعلته يفقد قلبه في القرى الثلجية مثلما قال في رسالة إلى صديقه خليفة الفاخري..

في "نوارس الشوق والغربة"، رسائل كثيرة، لكنها صورة واحدة لشخص الصادق النيهوم، فمن خلالها كان يعبر عن نفسه في مواطن الغربة التي كانت في الأخير موطنا مات فيه. وفي الرسائل دقائق صغيرة عن حياته فيها القلق والانبهار وطلب النصيحة والرأي. أحينا تقترب من السيرة الذاتية التي تُنقل للأصدقاء من أماكن بعيدة. الصادق النيهوم ككل المثقفين العرب الذين غادروا حياتهم المحافظة نحو عوالم أخرى فوجدوا أنفسهم يتأرجحون لا هم قادرون على البقاء على نسق الحياة الأصلية ولا هم متقبلون للواقع الجديد الذي فتح أعينهم على أشياء جديدة بل هي أشياء صادمة، خاصة في مدن أوروبا والولايات المتحدة. طبعا هذا الأمر كان في رحلة البدايات، لأن المدن الباردة بعد ذلك استقطبته وأصبحت جزءا من حياته الخاصة باعتباره أسس فيها عائلة وأنجب فيها أبناء.

في رسالته إلى خليفة الفاخري كم من العواطف والعضات الكثيرة، تكاد تعيش معه ما يريد قلبه أن يقوله، تحدّث له عن الغربة التي أعمت قلبه، والتي قال فيها متحدّثا عن صديقه الآخر الذي يحبّه محمد الفيتوري، "إن الغربة شيء قاس ... وأوروبا مربكة"، مضيفا في نفس الرسالة "قولا لأرضنا إنني وحيد وإن أوروبا العاهرة لا تساوي منها حجرا صغيرا .. وإنني لم أزل أحمل ترابها على وجهي". الكلمات تعلق كبير بالوطن والأصدقاء لكن النيهوم أخرجها من الإحساس إلى الكتابة بشكل يجعل قارئها حاملا معه لعواطف كثيرة.

مع الفاخري كان حديثه بلا مركبات، المؤكّد أن علاقتهما قوية جدا، فهو يحدّثه عن كل شيء وحتى يعاييره بألقاب يبدو أنها كانت بينهما في فترات الطفولة. كان يصف له ألمانيا التي لم يحبّها كثيرا ويكتفي بعلاقات فتياتها العابرة. فنلندا نجحت في اختطافه من عالم الغربة الآخر، كان منبهرا بها وبتفاصيلها ونسائها اللاتي نجحن في اختطافه كان يقول في إحدى رسائله "إن هلسنكي (عاصمة فنلندا) مدينة ودودة ثم يستأنف في حالات أخرى ليسبها هي ومدن أخرى. هذا الانبهار جعله يقول إنه أصبح في وقت من الأوقات مغرورا، مغرورا بنفسه ومغرورا على الناس ومغرورا حتى على بلده، لكنه دائما ما يصحو في لحظة شوق نحو بلد وأصدقاء يتمنى أن "يخلع ملابسه ويتجه نحهم سابحا".

الطريف في رسائل النيهوم لخليفة الفاخري أنها تخرج من طابعها التواصلي الإخباري إلى قصة مكتملة الشروط، بسردها ووصفها وحوارها وتراتب أحداثها. كان ينسى نفسه في الرسالة فتنفتح شاهيته على الكتابة. بالنسبة إلى المثقفين والكتاب لا شيء يكون صدفة. قد يكون الصادق النيهوم متعمدا في جعل الرسالة رواية كبيرة، فهو يعرف أن المرسلة إليه مثقف من الصف الأول فالمحتوى يجب أن يكون على قدر المقام، ربما فيه حتى الاستعراض الذاتي.

مع رشاد الهوني أيضا كانت رسائل كثيرة من الشوق والارتباط بالوطن البعيد. الهوني هو الذي كان له فضل التعريف بالنيهوم في الصحافة الليبية. منذ أول رسالة له من ألمانيا قال له إنه "يكتب له من فرانكفورت ... أحس شوقا يهزّ كياني وحنينا جارفا إلى لمحة خاطفة لمدخل مدينتنا الصغيرة". الوطن في رسائل النيهوم هو جزء من الذاكرة التي لم تمحها المدن الصاخبة ونساؤها.

من أروع تعبيرات النيهوم في رسالة لصديقه رشاد الهوني هو قوله "أنا مازلت أحرث العالم بقدمي باحثا عنكم في إعياء بالغ. أنا أريد أنا أجدكم ... فتلك فرصتي الوحيدة للخروج من منطقة الفخاخ المقامة بأرض العالم. وإن المرء ليفقد أبعاده جميعا عندما يضيع نقطة البداية". هذه الكلمات لا يمكن أبدا تكتفي بمجرد رسالة مرسلة من صديق إلى صديقه. هي انسياب في عالم الكلمة الثري الذي يختار أرقى التعبيرات للتعبير عن التعلق بالمكان. هو تعلّق مزاجي أحيانا لكن يبقى قلبه معلقا نحوه في زخم الشوارع البيضاء الجامدة عاطفة ومادّة.

في رسائله إلى رشاد الهوني حديث عن كثير من التفاصيل الأوروبية، لكن في كل تلك التفاصيل قفز مباشر إلى الوطن البعيد. لم يتخلّص النيهوم أبدا من ليبيا وأصدقاءه. هناك تعلّق خاص لم تفصله الجامعات الكثيرة التي درَس ودرّس فيها، ولا الفتيات اللاتي لم يكن يرهن في بلاده ولا ليالي الشتاء الثلجية التي أعجبته لأنها بقيت دائما جديدة عنه. فبقي دائما ابن بنغازي وحارة الحشاشين التي يذكرها في كل غفلة منه في الكتابة.

الطريف في رسائل الصادق النيهوم إلى أصدقائه أنها مليئة بالعاطفة نعم، لكن بعضها كان يحتوي النقد اللاذع، بل ربما الإهانة، مثل إحدى رسائله إلى الشاعر علي الفزاني الذي أرسل له قصيدة لإبداء رأيه فكان رده عليه كله انتقاد وفي كل بيت كان يجد له نقيصة إلى درجة يحس القارئ أن بينهما حساب. لكن رسائله الأخرى تظهر أن علاقة صداقة قوية بين الرجلين، وأن الفزاني كان يقبل انتقاده على سبيل النصح والتوجيه في مسائل تخص شعره.

نجح سالم الكتبي في جمع رصيد محترم يحفظ ذاكرة المفكّر الليبي الصادق النيهوم. تلك الرسائل وغيرها المفقود بالتأكيد هي نوع من السير الذاتي الذي يسرد حكاية مثقف في الغربة متعلّق بالوطن. هي مجموعة روايات صغيرة عرّفت المثقفين على تفاصيل من حياة رجل لم يكن ذا عمر طويل لكن كان ذا مخزون كبير بقي به استثناء بين بقية المفكرين الليبيين والعرب.