بشعرٍ مُجعّدٍ، وسحنة من القلق الدّائم غائمة فوق وجهٍ مترهّل ونحيف، يكتبُ الصادق النيهوم ويتكلّم بشغف الأسئلة الحارقة، يعبر سائرًا بجسده الهزيل في رحلةٍ طويلة بين الدّروب الوعرة، يهزّ الشّجر اليابس لتتساقطَ الأوراق في زمنٍ عربيّ فصوله الأربعة خريفٌ أصفر. يمشي النيهوم نافثًا دخّان سجائره الثّقيلة، راشقًا سهام الشّك في اليقينيات الراكدة، موقدًا حرائقهُ في مضارب السّلطة والفقهاء والموروث الذي تلبّس بالمقدّس .

عاش الصّادق النيهوم 57 عاما، ترك فيها عشرات الكتب والدراسات والأعمال النقدية والأدبية والترجمات والموسوعات العلمية، فمن حي الحشيش في بنغازي الرابضة على السواحل البيضاء للبحر المتوسّط، شرقيَّ ليبيا، حيث ولد في العام 1937، مرورا بالقاهرة وميونيخ وأريزونا وهلنسكي وصولا الى جينيف التي هزمه فيها المرض بأحد مصّحتها الباردة عام 1994، كانت مسيرة النيهوم العلمية والتعليمية والمعرفية شاقة ومرهقة وطويلة.

سافر النيهوم حاملاً حقائبه بين العواصم والجامعات والندوات، وخاض معارك كثيرة، طرح أسئلته القلقة وألقى أحجاره في البرك الآسنة، نصف قرن من النضال المعرفي، جعلت من الصّادق النّيهوم وهو يعود مسجّى من جينيف إلى حي الحشيش في بنغازي، علامةً فارقة ومتفرّدة في الثقافة العربية المعاصرة.


النيهوم ..مشروع الزعزعة العنيفة للمسلمات: 

كتب الصادق النيهوم في النقد الأدبي وكتب الأدب أيضًا وترك روايةً رائعة (من مكّة إلى هنا) كثّف فيها مشروعه الفكري كلّه بأسلوب أدبي غارقٍ في الرّمزيّة والتأويل، ولكنّ النيهوم عُرف أكثر في مجال الفكر والحقل الحضاري وفي نقد التراث الدّيني ومباحث الأديان المقارنة، وكان من الأوائل الذين اغتنوا بمناهج التحليل الحديثة في الغرب ليطبقوها على التراث العربي الإسلامي، مسنودًا بإطلاّع كبير على اللغات الحية وعدد من اللغات الميتة، التي تعتبر أدوات ضروريّة لفهم النّصوص وتفكيكها في حقل الأديان المقارنة.

ربّما يستحيل، الحديث عن مشروع الصّادق النّيهوم في كلّيته في مقالةٍ واحدة، لكن باختصار شديد يُمكن القول أنّه لم يكن يخفي أبدًا معركته القويّة والقاسية ضدّ "الفقهاء" ..وما يسمّيه تحديدا "إسلام الفقهاء".

بعجالةٌ، يُمكن القول أن مشروع الصّادق النّيهوم يتلّخص في كونه يسعى إلى "تحرير" الإسلام من سلطة الفقهاء، هذه السّلطة التي اكتسبها الفقيه عبر قرون طويلة ومتراكمة، حوّلت نصوصهم وأفكارهم (هُم) إلى مقدّس بعينه متماهٍ مع الدّين نفسه ونصوصه المقدّسة.

ولم يكن النيهوم يتردّد أبدًا في إعلان أكثر المواقف صِداميّة ضدّ الفكر السّائد، ولا خلخلة أركان هذا "المُقدّس الفقهي" بأشدّ الخلاصات فتكًا بقواعده الأساسيّة. بالتأكيد يحتاج كلّ هذا إلى تفسير وتوضيح، ويحتاج أيضًا إلى براهين، لكننا سنوضّح هنا بعضًا من أفكار النّيهوم التي قد تبدو الأكثر إحالة إلى هذا المشروع الفكري.. مشروع الزعزعة العنيفة للمسلمات.


** "إسلام" النيهوم ...و"إسلام" الفقهاء:

طافحًا بالمعرفة الموسوعية عن الأديان القديمة يشرّح الصادق النيهوم في كاتبه "الإسلام في الأسر" (فصل "الصلاة المسروقة")، معنى الخشوع في الصّلاة الإسلامية، انطلاقًا من الآية القرآنية "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"، ليؤكّد بأنّ الخشوع ليسَ سوى "انتباه المُخ" والذي لا يتأتى وفق تقديره إلا بانتظام الأنفاس، ومن هنا يدخل في تشريح حركات الصلاة في علاقة بحركة التنّفّس، رابطًا كل ذلك برياضة اليوغا، التي هي حسب قوله (وهو العارف باللغات القديمة الحية والميتة) لا تعني بالعربية غير كلمة "الصلاة".

وهنا يفصّل الباحث الليبي كلّ حركات الصلاة الإسلامية في علاقتها بعمليّة التنفّس ووضعية البطن والصّدر، واتجاه الهواء، مؤكّدا مع كل حركة بأن لها مرادفا في رياضة اليوغا (رفع اليدين لتكبيرة الإحرام يسمى في اليوغا [تادازانا]، والوقوف في الصلاة [سامس هيتي]، انحناء الركوع يسمى في اليوغا [يوتانازانا] ...إلخ).

لذلك يؤكّد النهيوم بأن حركات الصلاة الإسلامية ليست رموزا بقدر ما هي أوضاع يتخذها المُصلّي في علاقة بتمرير الهواء واتجاهه وحركة التنفّس والشهيق والزّفير، مشيرا إلى أن ضبط الإيقاع يتم وفق قراءة القرآن والتكبير، مضيفًا بأن قراءة القرآن تجعل الصلاة أكثر أنسًا من اليوغا المملة التي يشغل فيها الإنسان نفسه بحساب توقيت التنفس.

فهل كان الصادق النيهوم يريد أن يقول بأنّ حركات الصلاة الإسلامية، مسروقة من تعاليم قديمة سابقة، أم أنّه يريد القول بأن الفقهاء سرقوا الصلاة وحولوها إلى "طقس كهنوتي" في حين أنها (والتعبير له دوما) "نشاط ديني يقوم به العقل والجسم معا" ؟

المبحث غزير، ومتشعّب وغاص فيه النّيهوم كثيرًا، وفصّله تفصيلاً واسعًا وواضحًا، غير أنّ الإجابة عن هذا السؤال لا تبدو سهلة في علاقة بفهم مقصده من خلال العنوان أو الشرح، غير أنّ الجواب الثاني هو الأكثر ترجيحًا، لأنّه متناسق تماما داخل المشروع الفكري الرئيس للنّيهوم الذي أسميناه مشروع "تحرير" الإسلام، ومواجهة تفسيرات وسلطة الفقهاء.

** الردّة والختان ..أو كيف "خدم" الفقهاء التوراة ؟ 

كذلك في جوان 1993 نشر المفكر الليبي الصادق النيهوم مقالا في مجلة "الناقدبعنوان "الفقه في خدمة التوراة"، ارتكز فيه على ثلاثة قضايا فقهية كأمثلة لتوضيح فكرة يرى من خلالها "أنّ ما يدعوه فقهاء المسلمين، باسم [أحكام السنة النبوية]، هو في شكله ومحتواه، تطبيق حرفي لأحكام التوراة"، والأمثلة الثلاثة التي اعتمدها لشرح فكرته هي: قطع الرقاب والختان وتحريم الرسم والنحت، منطلقا من حادثة إعدام أحد الأشخاص في بلد إسلامي بتهمة "الارتداد عن الإسلام".

وقال النيهوم في تفصيل الحادثة بأنّ الحكم صدر "بموجب فتوى شرعية من علماء المسلمين"، واصفا عملية قطع العنق بالسيف بأنّها نفّذت في "جو إسلامي لا تشوبه سوى أن الفتوى نفسها، لا علاقة لها بالإسلام".

 مضيفا بالقول "بل هي يهودية"، وأوضح أن "الحكم بقتل المرتد فكرة مشبوهة لا تستند إلى نص القرآن الذي يقول صراحة (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي")، مضيفًا بأن هذه الفكرة "تستند إلى نص الإصحاح السابع عشر من سفر التثنية الذي يقول: "إِذَا وُجِدَ فِي وَسَطِكَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ يَفْعَلُ شَرًّا فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ إِلهِكَ بِتَجَاوُزِ عَهْدِهِ، وَيَذْهَبُ وَيَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى وَيَسْجُدُ لَهَا ..فَأَخْرِجْ ذلِكَ الرَّجُلَ أَوْ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، الَّذِي فَعَلَ ذلِكَ الأَمْرَ الشِّرِّيرَ إِلَى أَبْوَابِكَ، الرَّجُلَ أَوِ الْمَرْأَةَ، وَارْجُمْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ".

يواصل النيهوم في شرح فكرته متسائلا لماذا اختارت حكومة هذا البلد "إحالة قضية المرتد إلى الفقهاء بالذات؟"، رغم أنّ الإسلام لا يعترف -وفق تقديره- "بسلطة رجال الدّين أصلاً".

مجيبًا بأن "ذلك الأمر مرده إلى نص شرعي قاطع في الإصحاح نفسه يقول: "إِذَا عَسِرَ عَلَيْكَ أَمْرٌ فِي الْقَضَاءِ، اذْهَبْ إِلَى الْكَهَنَةِ اللاَّوِيِّينَ وَإِلَى الْقَاضِي الَّذِي يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، وَاسْأَلْ فَيُخْبِرُوكَ بِأَمْرِ الْقَضَاءِ فَتَعْمَلُ حَسَبَ الأَمْرِ الَّذِي يُخْبِرُونَكَ، حَسَبَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يُعَلِّمُونَكَ وَالْقَضَاءِ الَّذِي يَقُولُونَهُ لَكَ تَعْمَلُ. لاَ تَحِدْ عَنِ الأَمْرِ الَّذِي يُخْبِرُونَكَ بِهِ يَمِينًا أَوْ شِمَالاً".

ثمّ يؤكّد الصادق النيهوم بأنّه "لو قرر الحاكم أن يحيد عن الأمر يمينا أو شمالاً ويرفض دعوة الفقهاء، لكان عرضة للقتل شرعا، بموجب بقية الإصحاح الذي يقول: "وَالرَّجُلُ الَّذِي يَعْمَلُ بِطُغْيَانٍ، فَلاَ يَسْمَعُ لِلْكَاهِنِ الْوَاقِفِ هُنَاكَ لِيَخْدِمَ الرَّبَّ إِلهَكَ، أَوْ لِلْقَاضِي، يُقْتَلُ ذلِكَ الرَّجُلُ".

ثمّ يلخّص النيهوم فكرته بشكل تقريري قائلا "فالواقع أنّ ما يدعوه فقهاء المسلمين، باسم أحكام السنة النبوية، هو في شكله ومحتواه، تطبيق حرفي لأحكام التوراة". مضيفًا بالقول "لو شاء الباحث أن يذهب وراء التفاصيل، وينقب عن التأثيرات العميقة لكتاب التوراة في ما يسمى حاليا بعلم الحديث والسنة، لأدهشه مدى ضآلة التغيير الذي أحدثه الإسلام في حياة المسلمين وموتهم معا". 

ثمّ يضرب النيهوم مثلاً، يتخلّصُ به إلى القضيّة الثانية، أي قضية الختان، قائلا: "فمثلاً، كل طفل مسلم يتعرض لقطع غرلته، قبل أن يصبح مسلمًا حقا"، مؤكدا بأنّ هذه الممارسة "ليست ذات علاقة بالإسلام، ولم يوص بها القرآن، ولا تخص الدين أصلاً"، موضحًا أنّها "مجرّد وصفة بدائية للوقاية من الأمراض التناسلية، أخذها اليهود عن المصريين القدامى" بحسب تعبيره.

مؤكدا أنّه "لو سئل الفقيه المسلم عن المصدر الشرعي للختان، لما وجد أمامه نصا دينيا واحدًا يبيح مثل هذه الفعلة سوى الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين الذي يقول: وَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيم: هذَا هُوَ عَهْدِي الَّذِي تَحْفَظُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ: يُخْتَنُ مِنْكُمْ كُلُّ ذَكَرٍ، فَتُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ، فَيَكُونُ عَلاَمَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ".

وبعد أن يشرح كيف تخلصت الكنيسة المسيحية من هذه الممارسة باكرًا، يضيف النيهوم بالقول: "أمّا في الإسلام، فقد عمد الفقهاء إلى إعتماد الختان تحت شعار الحفاظ على السنة النبوية، وذهبوا إلى تبريره بحجة أنه "تواصل مع شريعة إبراهيم"، من دون أن يلاحظوا أن "الشاهد الوحيد على أن إبراهيم كان مختتنا، هو نص الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين الذي يعلن صراحةً أن الختان علاقة خاصة بين الرب وشعبه المختار فقط".

ثمّ يعرض النيهوم بعد ذلك كلامًا مشابهًا عن قضية النحر، والقِبلة، والعذريّة ونجاسة المرأة وتحريم التصوير والنحت (القضية الثالثة)، مستنتجا أنّ "المرء لا يستطيع أن يتصور مدى التخريب الذي أحدثه الفقه لمحو الحدود بين اليهودية والإسلام، بحيث تشابكت الخطوط نهائيًا، واكتمل التشابه في كل التفاصيل، من طولي اللحي والمسبحة، إلى شكل الزي الذي اعتمدته التوراة لتمييز رجال الدين [واصنع ثيابا مقدسة لهارون أخيك للمجد والبهاء، وهذه هي الثياب: صدرة ورداء وجبة وقميص مخرم وعمامة ومنطقةوهو زي يرتديه الفقهاء الذين أفتوا بقطع عنق المواطن السعودي بحجة أنّه مرتد على الإسلام" بحسب تعبيره.


** النيهوم.. مشروع عصيٌّ عن الإختزال:

إذن، هذا عرضٌ بسيط لبعض أفكار النيهوم التي ربّما قد توضّح جزءًا من مشروعه الفكري والنقدي، الشّجاع والصّدامي، ضد الموروث والتراث وسلطة الفقهاء وضد المؤسسات الاجتماعية والسلطوية المتهالكة التي حطّمت كل مشروع نهضوي/حضاريِّ ممكن للعرب، وأبّدت حالة الرّكود التي جعلت العرب يتذيّلون بقيّة الأمم والحضارات.

النيهوم كتب كثيرا عن هذه الأمّة وتخلّفها، وعن المرأة وعن السّلطة السياسيّة، رغم أنّه كان مقربًا منها، وكتب عن الدّيمقراطية وسلطة العقل وعن الجامع وعن الناس وهمومهم، كتب عن الشّعراء، وكتب إليهم، وكتب المقالات والدراسات النقديّة وفي الفكر السياسي والاجتماعي وحتى الإقتصادي، ولكنّ أعتقدُ أنّ ريادة الصادق النيهوم كانت تتحقّق في شيئين، الأدبُ (كروائي رهيب!) ونقد التراث الدّيني، وفي الثاني كان له السبق عن كل الذين جاؤوا بعده، وكلهم كانوا عيالاً عليه.. فقط إنّ مشروع الصادق النيهوم عصيٌّ عن الاختزال.