دخلت ليبيا عامها السادس بعد أحداث "17 فبراير"،بمزيج من التعثر والضبابية السياسية في ظل وضع تلفه الفوضى السياسية والأمنية التي طغت على المشهد الليبي على امتداد السنوات المنقضية في غياب حلول حقيقية للأزمة المستفحلة بالبلاد منذ سنة 2011.

 وعلى مدار هذه السنوات لم تهدأ نيران الأزمة لحظة رغم توقيع اتفاق الصخيرات فى المغرب منتصف ديسمبر عام 2015،حيث ما زالت ليبيا  ترزحُ تَحت وطأة الانقسام والاقتتَال وانعدام الاستقرار السياسي، بسبب النزاعات المسلحة وغياب الحلول الناجعة لإرساء دولة مؤسسات وقانون ،في بلد تحكمه سطوة السلاح والاقتتال على السلطة في ظل حكومات متصارعة ومتناحرة فيما بينها.

أزمة اجتماعية

تعيش ليبيا منذ 2011 ،حالة من الفوضى بسبب النزاعات بين الفصائل المسلحة، ورغم تعاقب الحكومات على الحكم في ليبيا فقد فشلت جميعها في معالجة ملف الانفلات الأمني وانتشار الجماعات المسلحة والفساد وهو ما عبر عنه السفير البريطاني في طرابلس بيتر ميلت في رسالة إلى الليبيين نيابة عن الشعب البريطاني، يؤكد فيها أنه يشاطرهم مشاعر الإحباط تجاه المشاكل اليومية مثل الكهرباء والسيولة المالية وازدياد الجريمة، معتبرا أن الشعب الليبي قد عانى بما فيه الكفاية. وأقر بأن "ثورة فبراير" وصلت بليبيا إلى حالة أسوأ من قبل.

ويشكو الليبيون تدهور الوضع الامني في غياب مقومات الامن بينما تنتشر الاسلحة بكثرة. ويعاني المواطنون في البلاد من تردي أحوال المعيشة؛ حيث تنقطع الكهرباء لفترات طويلة يوميًّا، كما أن نقص السيولة في المصارف يعني وقوفهم في طوابير طويلة لسحب مرتباتهم، إظافة إلى تردى  نظام الرعاية الصحية وانعدام الأمن الغذائي والمأوى والمواد غير الغذائية والمياه والصرف الصحي.

فوضى وضحايا

في ظل الانقسامات بين الفرقاء،تعيش ليبيا،التي تتنازع فيها قوى متناحرة تحاول فرض سيطرتها الميدانية على أكثر النقاط فائدة لها، حالة فوضى ورعب نهاري وليلي في الاشتباكات على المحاور، مع انتشار التنظيمات الارهابية، فضلاً عن عصابات الجريمة المنظّمة التي تحول وجودها إلى حقائق فاعلة في الشارع. وقد ساهم انتشار الصراعات المسلحة في حصد أرواح مئات الضحايا بالاضافة الى الصراعات القبلية وأزمة المهاجرين غير الشرعيين التي زادت الطين بلة.

في غياب سلطة دولة تمارس الرقابة وتحقق الأمن، واصلت عشرات الميليشيات المتنافسة، مع اختلاف أجنداتها وولاءاتها، خرق القانون مع الإفلات من العقاب. وشاركت الميليشيات المسلحة في الاعتقالات التعسفية والتعذيب وعمليات قتل غير قانونية، والهجمات العشوائية والاختطاف والاخفاء القسري. اختطفت العصابات الإجرامية والميليشيات سياسيين وصحفيين ومدنيين، بينهم أطفال، لتحقيق مكاسب سياسية ومالية.

 كما سعى الجهاديون للتواجد في ليبيا والسيطرة على مناطق واسعة في غياب جيش قوي، وبخاصة تنظيم داعش الذي سيطر على مساحات واسعة من ليبيا، حيث سيطر مقاتلون موالون للتنظيم على مدينة سرت الساحلية، وعرّضوا السكان لتفسير صارم للشريعة الإسلامية التي شملت الجلد العلني، وبتر الأطراف، والقتل أمام الملأ، وغالبا ما تركوا جثث الضحايا في الساحات. وارتكب التنظيم جرائم كبيرة في سرت الى حين طرده في ديسمبر الماضي المدينة الواقعة على البحر الأبيض المتوسط.

أزمة اقتصادية

عاين الاقتصاد الليبي سنوات من الانقسام السياسي والخلافات، وهو ما أثّر بشكل مباشر على الإنتاج النفطي المصدر الرئيسي للدخل بالبلاد،ودخلت على إثرها ليبيا أزمة اقتصادية تاريخية تراجعت خلالها عائدات النفط بشكل متسارع. مما ساهم في تفاقم الأزمات المعيشية في أغلب المناطق، على خلفية الاضطرابات الأمنية وتدهور الأوضاع الاقتصادية وغلاء المعيشة ونقص الإمدادات الغذائية، وتأخر صرف رواتب العاملين.

تحولت ليبيا الغنية بالنفط الى بلد يعيش أزمة اقتصادية خانقة، حيث  تراجعت صادرات النفط الليبية بالمقارنة مع مستوى ما قبل 2011 بقرابة 90%، كما خسر الناتج المحلي الإجمالي قرابة 200 مليار دولار من قيمته. وعلي خلفية الاضطرابات الأمنية التي صاحبها تدهور سياسي تواجه ليبيا أسوأ أزمة مالية واقتصادية خانقة وخسائر فادحة في مصدر دخلها الوحيد وهو النفط.

وشكل النفط قبل 2011 نحو 94% من عائدات ليبيا من النقد الأجنبي و60% من العائدات الحكومية، إذ كانت البلاد تنتج 1.65 مليون برميل يوميًا من معدل احتياطي قدره 41.5 مليار برميل.وساهمت الخلافات السياسية مع التنازع الإداري على مؤسسات الدولة الاقتصادية وسيطرة مليشيات على حقول وموانئ التصدير في بقاء إنتاج النفط عند مستوى 400 برميل يوميًا، وهو ما يعادل ربع الإنتاج العام 2011.

 وفي العام 2016 شهد الاقتصاد انفراجة عندما استطاع الجيش الليبي استعادة منطقة الهلال النفطي يوم 11 سبتمبر، مما رفع إنتاج النفط تدريجيًا حتى وصل إلى 700 ألف برميل يوميًا. فيما كشف مصطفى صنع الله رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، عن مخطط لرفع إنتاج من النفط إلى 2.1 مليون برميل يوميًا، من خلال استهداف استثمارات بقيمة 19 مليار دولار، على مدار السنوات الخمس المقبلة؛ متوقعًا ارتفاع الإنتاج إلى نحو 1.2 مليون برميل يوميًا بحلول نهاية العام الحالي، حال استمر الوضع الأمني مستقرًا، وتقديم تمويلات من البنك المركزي والخزانة العامة.

وكشفت الأرقام، التي أعلنها مصطفى صنع الله رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في وقت سابق، عن حجم الأضرار والتدهور الذي لحق بالعائدات النفطية الليبية خلال السنوات الأربع الماضية، ووفقاً لتصريح صنع الله فإن "العائدات النفطية بلغت 3.87 مليارات دولار حتى نوفمبر من العام الماضي". كما تراجعت عائدات ليبيا النفطية خلال السنوات الأربع الماضية الأخيرة، على وقع الخلافات السياسية والأزمات الأمنية التي شهدتها البلاد بالتزامن مع غلق للعديد من الحقول النفطية، وتراجع الآبار المنتجة للنفط بنسبة 73% خلال السنوات الخمس الماضية.

المسار السياسي

لا يزال الغموض يسيطر على الأوضاع في الدولة الليبية التي يتقاتل أطرافها منذ الـ 17 من فبراير لعام 2011، وحتى الآن،فرغم توقيع اتفاق الصخيرات فى المغرب منتصف ديسمبر عام 2015، ورغم جولات الحوار الوطني داخليا وخارجيا، لا تزال ليبيا منقسمة، إلى 3 حكومات ، ومجلسان رئاسيان،  يتوسطهما برلمانان. حيث تعد المادة الثامنة التى يتضمنها الاتفاق السياسى أحد أبرز نقاط الخلاف بين الفرقاء الليبيين وهى المادة التى تقضى بتولى رئيس المجلس الرئاسى لحكومة الوفاق الوطنى توزيع المناصب العسكرية القيادية فى البلاد وهو ما أثار  كتلة مجلس النواب فى الشرق الليبى ورئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح، داعين لحذف تلك المادة من الاتفاق السياسى قبيل تعديل الإعلان الدستورى لتضمين الاتفاق السياسى.

ورغم المجهودات الدولية لتشكيل حكومة وحدة وطنية إلا أن الخلافات عصفت بأي فرصة لبناء دولة حقيقية،مع انعدام الاستقرار السياسي بسبب النزاعات المسلحة، لتتحول ليبيا إلى مجرد ساحة للنزاعات المحلية والإقليمية ما سهل للتنظيمات الإرهابية عملية اختراقها. وأسهم هذا التخبط السياسي والأمني في طرح امكانية التدخل العسكري الاجنبي في عديد المناسبات، كان آخرها تاكيدات ينس ستولتنبرغ أمين عام حلف الأطلسي "الناتو"،الجمعة 16 فبراير 2017، بان حكومة الوفاق الليبية أرسلت طلبا لتدريب قواتها. وقال ان "الطلب يتعلق بالمساعدة في إقامة مؤسسات أمنية ودفاعية.".

وسبق حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج سبق وان طلبت مساعدة قوات "الافريكوم" لمحاربة معاقل تنظيم "داعش" الارهابي على اراضيها. ويرى مراقبون ان بطء مسار التسوية السياسية في ليبيا وتضارب الرؤى بين مختلف اطراف الصراع يجعل من "التدخل العسكري الاجنبي" فرضية دائمة الحضور عند الحديث عن اي فرص للتسوية.

هذا التعثر السياسي دفع دول الجوار الى التدخل في محاولة لتقريب وجهات النظر بين الأطراف الليبية، حيث استضافت القاهرة على مدار الأشهر الماضية عدد كبير من المسؤولين الليبيين من كافة الأطراف ولاسيما أعضاء مجلسى النواب والدولة ورئيس المجلس الرئاسى الليبى فائز السراج والقائد العام للجيش الليبى المشير خليفة حفتر ورئيس مجلس النواب الليبى المستشار عقيلة صالح وهى أبرز العناصر المشمولة فى الاتفاق السياسى للوصول لصيغة توافقية لنزع فتيل الأزمة فى البلاد.

فيما تعددت المبادرات من الجزائر وتونس حيث تتضح رغبة دول الجوار في سد حالة الفراغ السياسي في ليبيا، وذلك بالعمل على التقريب بين وجهات النظر للأطراف المختلفة، وتعزيز مسار التحول الديمقراطي والاتفاق على شكل العملية السياسية والدولة. وفي هذا السياق، أعلنت تونس تقديم إجتماع وزراء خارجية الجوار الليبي إلى يومي 19 و 20 فيفري/فبراير 2017 عوضا عن 1 مارس المقبل. وقال وزير الخارجية التونسية خميس الجهيناوي إنه في إطار تفعيل المبادرة التي تقدم بها الرئيس الباجي قائد السبسي لحلحلة الأزمة الليبية, وحرصا من كل من تونس ومصر والجزائر على إيجاد حل سياسي للأزمة تم تكثيف المشاورات مع وزيري خارجية الجزائر ومصر التي انتهت بالإتفاق على تقديم الإجتماع.

ويترقب الليبيون ما ستسفر عنه تحركات دول الجوار والجهود التى تبذلها لإنجاح الاتفاق السياسى ودفع كافة الأطراف للالتزام بالعملية السياسية بعيدا عن التصعيد العسكرى الذى لن يكون حلا للأزمة الراهنة التى تعصف بأمن واستقرار البلاد، إضافة لمساعدة البلاد فى المرور من الازمة السياسية العاصفة التى تهدد البلاد.