دخلت إيطاليا إلى ليبيا في العام 1911 تحت عناوين إستعمارية تتحدّث عن "شاطئ رابع لروما" و"ليبيا الإيطاليّة" ولم تحصل البلاد على إستقلالها إلاّ في العام 1952 ،بعد أن دفع الليبيون في سياق معركة تحرير وطني آلاف الضحايا .

وظلت ليبيا بعد الإستقلال تحت حكم الملك السنوسي قرابة العقدين ،حتى قام مجموعة من الضباط ،بازاحته عن السلطة واعلان الثّورة في الفاتح من سبتمبر عام 1969 بقيادة العقيد معمّر القذّافي ،وفي العام 1970 بعد عام واحد من وصول "الضبّاط الوحدويين الأحرار" إلى السّلطة ،أعلن القذّافي اجلاء المستوطنين الإيطالين من البلاد الذين كان عددهم يقدّر بالآلاف .

وظلّت العلاقة بين الطّرفين تتراوح بين مدّ تأثيرات الإرث الإستعمار وجزر المصالح المشتركة ،ففي العام عام 1974 وقّع الطرفان اتفاقية روما للتعاون الاقتصادي والعلمي والتقني.

غير أنّ العلاقة دخلت في فترة فتور كبير بين العامين 1986 والعام 1998 بسبب دخول طرابلس في مواجهات مع الغرب ،وبسبب الحصار المفروض على ليبيا ،وتوتّر العلاقة بين القذّافي القريب من المعسكر الاشتراكي السوفياتي والعالم الغربي .

فردا على القصف الأمريكي الذي استهدف ليبيا في منتصف الثمانينات ،ردّت ليبيا باطلاق صواريخ سقط أحدها قرب صقيلية الإيطاليّة ما أسهم في تعميق هذا الفتور بين الطّرفين .

وبعد قرابة العقد والنصف ،ومع تصفية ليبيا لملفاتها العالقة في علاقة بالدّول الغربيّة ،دخلت العلاقة منعطفًا جديدا ،بتوقيع معاهدة في العام 1989 تقضي بالتفاهم على اغلاق الحقبة الاستعمارية والتباحث في العلاقات المستقبليّة بين الطّرفين . تطوّرت بعدها العلاقت بمجموعات من الاتفاقيات الأخرى في الأعوام 2000 و2003 و 2007 بشكل متتالي شملت قضايا الحرب على الارهاب، والجريمة المنظمة، ومكافحة المخدرات والهجرة غير الشرعية ،والتنسيق والتعاون الثقافي والعلمي والتقني .

** إتّفاقية 2008 التاريخيّة :

في الـ30 من شهر أغسطس آب وقّع الطّرفان إتفاقًا تاريخيًا لتصفية الحقبة الإستعماريّة بشكل نهائي ،وهو إتّفاق يقضي بإعتذار إيطاليا ،ودفع تعويضات لليبيا على تلك الحقبة الإستعماريّة.

ونصّت الإتفاقية في توطئتها على عزم البلدين على "القفل النهائي لـملف الماضي المؤلم ، الذي سبق لإيطاليا أن عبرت في الإعلان المشترك عام 1998 ، عن أسفها للآلام التي لحقت بالشعب الليبي من جراء الاستعمار الإيطالي ، وذلك بحل كافة الخلافات الثنائية ، ومؤكدتين على الإرادة الراسخة في بناء مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية المؤسسة على الاحترام المتبادل والكرامة المتكافئة والتعاون الكامل وعلاقة ندية كاملة ومتوازية " وضمت الاتفاقيّة 23 مادة تشمل مختلف المجالات .

كما تمّ بموجب الاتفاق التفاهم على ان تدفع  إيطاليا خمسة مليارات دولار على مدى 25 سنة تعويضا عن الحقبة الاستعمارية ،وهو الأمر الذي يحدث أوّل مرّة في تاريخ الدّول العربيّة التي لم تحصل أي منها على اعتذار على الفترات الاستعمارية ولا عن تعويضات في هذا الجانب. وقال رئيس الوزراء الإيطالي حينها سيلفيو برلسكوني ومعاونيه وطاقم الحكومة الإيطالية تنهي النزاع القديم  عن الحقبة الاستعمارية لإيطاليا في ليبيا واصفًا إيّاها بأنّها "اعتراف كامل ومعنوي بالضرر الذي ألحقته إيطاليا بليبيا إبان الفترة الاستعمارية".

 ** "17 فبراير" والمنعطف الجديد في العلاقات :

مع بداية العام 2011 ألغت إيطاليا إتفاقية الصداقة الموقّعة في العام 2008 والتي دخلت حيّز التنفيذ في العام 2009 ،وذلك في سياق التفاعلات الدّولية مع أحداث الـ"17 من فبراير" ،غير أنّه ومع سقوط نظام العقيد معمّر القذّافي بدأت العلاقات الليبية الإيطاليّة تعود تحت عناوين إتّفاقيات جديدة .

ففي يناير من العام 2012 يناير 2012 القذافي بمناسبة اول زيارة لرئيس الوزراء الايطالي ماريو مونتي  بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي وقع الطرفين اتفاق ليكون اطارا سياسيا جديدا للعلاقة ما بعد معمّر القذّافي .

ويمكن إعتبار العلاقة ما بعد نظام العقيد معمّر القذّافي قد انحسرت تقريبا في الجانب الأمني والعسكري . ففي العام  2014 وقّع الطرفان اتفاقا لتعزيز الدعم للقوات المسلحة الليبية ،حيث بدأ الجيش الإيطالي بعدها في تدريب 2000 عسكري ليبي.

غير أنّ أهمّ ملف ظلّ يؤرق السلطات الإيطالية ومن خلفها دول الإتحاد الأوروبي هو ملف الهجرة غير الشّرعية وتدفّق آلاف اللاجئين الى سواحل المتوسّط الشماليّة ،حيث أطلقت ايطاليا والاتحاد الاوروبي عمليات عسكرية في المتوسّط لمنع تدفّق المهاجرين والحد من ظاهرة تهريب والاتّجار بالبشر .

وفي العام 2015 ،تعمّق المأزق الإيطالي أكثر مع ظهور تنظيم داعش في مدينة سرت الساحلية المقابلة للشواطئ الإيطالية ،ما دفعها الى دعم عمليّة "البنيان المرصوص" التي أطلقتها حكومة الوفاق الوطني لطرد التنظيم من المدينة ،حيث قامت إيطاليا بارسال جنود وطواقم طبية الى مدينة مصراتة التي ينحدر منها معظم مقاتلي العمليّة ،كما قامت بنقل مصابين من الجنود الى مستشفيات إيطالية .

** "الإنحياز الإيطالي" وسط الإنقسام الليبي:

وجّه المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي إتّهامات صريحة الى إيطاليا بالإنحياز الى طرف دون آخر في المشهد الآخر مستشهدا بدعمها لقوات حكومة الوفاق في حربها ضد تنظيم داعش في حين لم تقدّم أي مساعدات للجيش الليبي في حربه على الإرهاب شرق البلاد.

الصحافة الإيطالية بدورها شنت حملات واسعة على حكومة بلادها على موقفها الذي إعتبرته هي الأخرى منحازا لطرف عينه ،في وقت كانت فيه قوات الجيش قد كسبت أهم معركة استراتيجية وهي السيطرة على الموانئ النّفطيّة . كما إتّهم عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي في أفريل الماضي إيطاليا بـ"دعم المنقلبين على السلطة في ليبيا" . ورغم محاولات ايطاليا لتعديل موقفها من خلال نقل جنود من الجيش الليبي للعلاج في روما ،لقاء السفير الإيطالي مع أعضاء من البرلمان في مدينة طبرق .

غير أن الأمور عادت الى التوتّر من جديد بعد سيطرة قوات "سرايا الدّفاع عن بنغازي" لمدّة قصيرة على الموانئ النّفطية حيث قال وقتها المبعوث الإيطالى لليبيا فى تصريحات صحفية "إن المجلس الرئاسى الليبى، من خلال مؤسسة النفط الوطنية وحرس المنشآت النفطية تمكن من استعادة المرافق من ميليشيات حفتر" وفق تعبيره. قبل أن يتعمّق الخلاف أكثر مع اعلان ايطاليا اطلاقها لعملية عسكرية في المياه الليبية لمقاومة الهجرة غير الشّرعية قالت انها بطلب من حكومة الوفاق الوطني ،حيث رست باخرة عسكريّة ايطالية على سواحل طرابلس في انتظار وصول سفينة ثانية .

** مواقف مندّدة وحديث عن "عودة الإستعمار" :

قوبلت هذه الخطوة الإيطالية بتنديد ليبي واسع ،حيث أعلن مجلس النواب الليبي رفضه لأي إتفاقية عقدها المجلس الرئاسي المقترح أو أي طلب قُدم منه لدولة إيطاليا يُسمح من خلاله بانتهاك السيادة الوطنية للبلاد تحت ذريعة تقديم المساعدة والدعم لمكافحة الهجرة غير الشرعية. كما أصدر نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فتحي المجبري بيانا شديد اللهجة عبّر فيه عن إدانته للانتهاك الصارخ للسيادة الليبية من خلال السماح لقطع عسكرية أجنبية بدخول الأراضي الليبية. مدينا ما أسماه " تورط الحكومة الإيطالية بناء على قرار فردي من السراج، داعيا إياها للتوقف الفوري عن انتهاك السيادة الليبية" معلنا تأيده "للقرار المتخذ من القيادة العامة للقوات المسلحة بالتصدي لهذا الاختراق للسيادة الليبية" وفق نص البيان .

وكان المشير خليفة حفتر ،في ذات سياق ردود الأفعال ،أعطى المشير خليفة حفتر القائد العام للوات المسلحة الليبية أوامره لسلاح الجو الليبي بالتصدي لأي قطع بحرية ايطالية تنتهك حرمة السيادة الليبية.

غير أن إيطاليا   قللت من شأن تلك التهديدات واصفة إياها بأنها "مجرد دعاية" وفق تعبيرها.

فيما أطلق نشطاء على مواقع التواصل الإجتماعي حملات تحت عنوان "ليبيا ليست الشاطئ الرابع لروما" ،واصفين العملية بأنها "عودة للإستعمار" .