رحل الرئيس الجزائري الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، بعد صراع طويل مع المرض، وأعلن التلفزيون الرسمي الجزائري وفاته عن عمر ناهز 84 عاماً، وكان بوتفليقة الرئيس السابع للبلاد منذ استقلال الجزائر عام 1962 وتولى رئاسة الجزائر في عام 1999، وفاز بوتفليقة بولاية ثانية في نيسان 2004 وأعيد انتخابه في نيسان 2009 لولاية ثالثة ثم فاز بولاية رابعة في نيسان 2014، وأعلن بوتفليقة في 2 نيسان 2019 رسمياً إنهاء ولايته الرئاسية للبلاد. لقد ظل الراحل بوتفليقة رئيسا قويا بفعل ولاء الجيش له ومحبة وتقدير الجزائريين لدوره خلال حرب التحرير، وبعدھا في تولي دور ھام من خلال موقعه كوزير للخارجية إبان حكم الرئيس ھواري بومدين، وحتى عندما صار بوتفليقة مقعدا في آخر ولاية رئاسية له وتراجع وضعه الصحي تقبّل الجزائريون ھذا الواقع، لكن عندما أظھر بوتفليقة إصرارا على البقاء لولاية رئاسية خامسة، خرجت المظاهرات في الشوارع ضد ترشيحه، كونه العاجز على كرسيه المتحرك، والفاقد للنطق والمبتلى بمرض سرطان المعدة، ثم جلطة دماغية منذ عام 2005، إذا كان في نظر البعض هكذا، فإن الكثير يعلم فضل هذا الرجل على الجزائريين، منذ أن قاتل بشراسة ضد الاحتلال الفرنسي، ونال صنوف التنكيل في السجون الفرنسية، أصابته بعاهات مستديمة أعجزته، وصار يعيش بجسد شبه مشلول، ولم ينعم بالحياة كما يتهمه البعض. 

وصل بوتفليقة للحكم عام 1999، وجد أمامه بلدا محطما أمنيا يكسوه الإحباط واليأس والخوف، فقام بمعالجة ملف الحرب الأهلية وأصدر قانون (الوئام المدني أولا) ونتج عنه نزول آلاف المسلحين من الجبال، وتبع ذلك مشروع للسلم والمصالحة، يجيز تعويضاً مادياً لعائلات الضحايا، لقد استطاع الراحل بوتفليقة أن يحقق طفرة اقتصادية كبيرة غير مسبوقة، وصنفت الجزائر في عهده ضمن الدول العشر الأكثر أمانا في العالم، حسب تصنيف معهد جالوب الأميركي. وعندما تحركت الجموع الجزائرية للشارع عبر مظاهرات عمّت مختلف ولايات الجزائر، وبعد شهر من التظاهرات العنيفة أعلن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة تنحيه عن السلطة بعد عشرين عاما من الحكم، وانحاز الجيش لمطالب المحتجين وهتف الجزائريون "الجيش والشعب خوا خوا"ـ يعني إخوة.

لقد ودع الراحل عبد العزيز بوتفليقة الرئاسة، وأبلغ رسميا رئيس المجلس الدستوري قرار إنهاء عهدته بصفته رئيسا للجمهورية، وذلك اعتبارا من تاريخ 2 نيسان/أبريل 2019. وتضمنت الرسالة الرسمية الأخيرة للرئيس، رسالة الوداع لمسيرة عشرين عاما من الحكم، إشارات تتطلب الانتباه لها ولما وراء سطورها. أكد فيها: إن قصدي من اتخاذي هذا القرار إيمانا واحتسابا، هو الإسهام في تهدئة نفوس مواطني وعقولهم لكي يتأتى لهم الانتقال جماعيا بالجزائر إلى المستقبل الأفضل الذي يطمحون إليه طموحا مشروعا. وأضاف: إن قراري هذا يأتي تعبيرا عن إيماني بجزائر عزيزة كريمة تتبوأ منزلتها وتضطلع بكل مسؤولياتها في حظيرة الأمم. وختمها: يشهد الله جل جلاله على ما صدر مني من مبادرات وأعمال وجهود وتضحيات بذلتها لكي أكون في مستوى الثقة التي حباني بها أبناء وطني وبناته، إذ سعيت ما وسعني السعي من أجل تعزيز دعائم الوحدة الوطنية واستقلال وطننا المفدى وتنميته، وتحقيق المصالحة فيما بيننا ومع هويتنا وتاريخنا.

وفي نظر العديد من السياسيّين والمتابعين للشّأن الجزائري، فالرئيس الراحل بوتفليقة أنقذ الجزائر مرتين، مرة بإخراجها من العشرية السوداء ومرة بقطع الطريق على المتربصين بها والهادفين إلى زعزعة أمنها واستقرارها، يؤكد على أهمية هذه الخطوة التي أقدم عليها آنذاك ساكن المرادية الذي ناضل ضد الاستعمار الفرنسي وساهم في بناء الدولة مع الراحل الهواري بومدين، ثم أنقذ الجزائر من عشريتها السوداء الدموية.

لقد مرت الجزائر منذ استقلالها عام 1962 بأربع مراحل كبرى تركت كل منها ندبه في النسيج المجتمعي الجزائري، الأولى كانت مع الرئيس أحمد بن بلا (1962-1965) والتي يمكن توصيفها بمرحلة حلم الثورة الدائمة القائمة على "طهرية" ثورية لم يستطع بن بلا في أتونها أن يفهم كيف يمكن لـ"علي لابوانت" فتوة حي القصبة الشعبي الشهير الذي لعب دوراً بارزاً في الثورة الجزائرية أن ينغرس عميقاً في الذات الجزائرية فذاك يجب أن يكون فقط من حق الثوار على النمط التشيغيفاري فحسب، الأمر الذي أدى إلى الإطاحة به من خلال الثالوث: هواري بومدين والطاهر الزبيري وعبد العزيز بوتفليقة، بزعامة الأول، لتدخل البلاد مرحلتها الثانية التي أسست لمرحلة بناء الدولة وتحديد هويتها، وفيها شهدت الجزائر حركة تعريب واسعة تعدتها إلى خارج حدودها، حيث سيصبح بومدين أول المتحدثين باللغة العربية من على منبر الأمم المتحدة، بل وسيذهب الأخير إلى حدود فرضها لغة رسمية على ذلك المنبر... 

والثابت هو أن الأخير أيضاً كان قد نجح في إرساء عقد اجتماعي جديد مبني على توازن السلطة المجتمع، قبل أن يغيبه الموت في عام 1979 لتدخل البلاد مرحلتها الثالثة مع الرئيس الشاذلي بن جديد بحال من الاضطراب بادية وإن لم تكن ملحوظة في العلن إلا أنها كانت كذلك في أوساط دوائر السياسة ذات الاهتمام، وهو ما دفع بميشال  جوبير وزير خارجية الرئيس الفرنسي السابق جورج بومبيدو، وكذا كان وزيراً في حكومة فرنسوا ميتران، إلى تحدي السفير الفرنسي في الجزائر إذا ما كان يستطيع تحديد من الذي يحكم هذي الأخيرة الآن في محاضرة له ألقاها بباريس عام 1981، كان اضطراب الحبل يغز خطاه حثيثاً نحو حال الفوضى العارمة التي بدأت عام 1989 لتستمر عقداً ونيف من الزمن ولتبدأ ملامحها بالتلاشي مع وصول بوتفليقة إلى السلطة في عام 1999، والشاهد هو أن هذا الأخير كان قد ورث عن المرحلة السابقة ثقلاً راجحاً للمؤسسة العسكرية التي وإن كانت قد استطاعت كبح جماح المد الإسلامي الأصولي إلا أنها أحكمت قبضتها على كامل مفاصل الدولة والمجتمع، الأمر الذي دفعه نحو العمل على التخفيف من تلك الحالة الضاغطة، وإن لم يكن ذلك بحل استئصالي وإنما كان عبر إحداث حال من التوازن داخل المؤسستين العسكرية والأمنية على حد سواء، ولربما كان نجاحه في ذاك سبباً رئيسياً لاستمرار عهده على امتداد العقدين الماضيين، على الرغم من أنه، أي عهد بوتفليقة، لم يخل من محاولات الإخلال به.

جاءت عودة عبد العزيز بوتفليقة إلى الساحة السياسية – وهو أحد أقرب رفاق هواري بومدين وأعضاء مجموعة وجدة، وفوزه بالرئاسة عام 1999 ـ جاءت هذه العودة لتشكل كابوساً لكثير من القوى الداخلية والخارجية، في الداخل كان يبدو أن الصراع محصور بين الليبراليين وقوى الإسلام السياسي، وبعض قوى "الأمزغة" التي تنال حصة تتناسب مع تعميم مفهوم التعددية الثقافية بنسخته الغربية، أما في الخارج فكان لسان حال القوى الرأسمالية يقول: "بغض النظر عن الفائز في الصراع الداخلي، فإن النتيجة تصب في مصلحتنا". لقد انصب اهتمام الرئيس بوتفليقة على حل الأزمة الوطنية الداخلية، فكان "قانون الوئام" عام 1999، ثم "ميثاق السلم والمصالحة" عام 2005، التي نجم عنها استقرار أمني وسياسي، لم تعكره محاولة اغتيال الرئيس بوتفليقة في مدينة باتنة عام 2007.

ورغم التوازن الذي حرص الرئيس بوتفليقة على خلقه بين مختلف القوى الداخلية، وتمكنه من تحييد القوى الخارجية من خلال تقديم بعض التنازلات التي لا تتناقض مع السيادة الوطنية، وموقع الجزائر في معسكر قوى التحرر الوطني إلا أن بعض قوى الداخل المرتبطة بالمعسكر الرأسمالي استمرت في افتعال الأزمات بين الحين والآخر، فكانت أحداث منطقة القبائل ما بين عامي 2001 ـ 2002 والاحتجاجات على تعديل الدستور وترشيح الرئيس بوتفليقة لعهدتين ثالثة ورابعة، لكن القوى الخارجية لم تدفع الأمور نحو التأزم، واكتفت ببعض الإجراءات الاقتصادية التي أقرها الرئيس الراحل بوتفليقة، وبخاصة في المجال المصرفي، التي ضمنت انخراط الجزائر في السوق العالمي.

وأخيراً وليس آخر، لقد طوى الرئيس الراحل "عبد العزيز بوتفليقة" صفحة من كتاب التاريخ، الذي خطَّه بالأفعال والأقوال، والرؤساء الكبار لهم إنجازات عظيمة وأخطاء عظيمة أيضاً... والأكيد أنّ الراحل "بوتفليقة" لن يرحل إلى النسيان، لأن من مثله يبقون في ذاكرة الشعوب، تدل عليهم إنجازاتُهُم.