برهان هلّاك

صدر يوم الجمعة 20 ماي 2022 المرسوم عدد 30 لسنة 2022 المتعلق بإحداث “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” بالرائد الرسمي للبلاد. وكان الرئيس قيس سعيد قد أصدر هذا المرسوم الذي فصّل القول في تركيبة هذه الهيئة، إذ ستتكوّن من “لجنة استشارية قانونية” مكوّنة من عمداء كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية بتونس، ويتولى رئاستها أكبر الأعضاء سناّ. وستتولى هذه اللجنة الاستشارية إعداد مشروع دستور “يستجيب لتطلعات الشعب ويضمن مبادئ العدل والحرية في ظل نظام ديمقراطي حقيقي

كما ستحتوي الهيئة كذلك لجنة استشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية يترأسها عميد المحامين إبراهيم بودربالة، وتتركّب من عضو يكون ممثلا عن كلّ من الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري والاتحاد الوطني للمرأة التونسية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وستضطلع لجنة الحوار الوطني المكوّنة من أعضاء اللجنتين الاستشاريتين بمهمة التأليف بين المقترحات التي تتقدّم بها كلّ لجنة بهدف تأسيس جمهورية، وعلى أن تقدّم للرئيس التونسي تقريرا نهائيّا في أجل أقصاه يوم 20 جوان المقبل.

وأثار هذا المرسوم، كسابقيه من أغلب المراسيم الصادرة منذ تاريخ الإعلان عن التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021، هرجا ومرجا تراوح بين السخرية من تعيين الفقيه القانوني التسعيني، الصادق بلعيد، رئيسا منسقا للهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة باعتبار أنّه "صانع دساتير على المقاس سابقا" (في إشارة إلى إشرافه على إحدى التعديلات الدستورية التي أجراها الرئيس المخلوع الراحل زين العابدين بن علي خلال فترة حكمه)، وبين إدانة إقصاء كلّ الأحزاب السياسية من المشاركة في تحديد مصير البلاد (المساند منها والمعارض لمسار 25 جويلية). كما يرفض الكثيرون في دائرة المعارضة السياسية لطريقة إدارة الرئيس قيس سعيد للدولة إقامة هذه الهيئة، إذ يعتبرون أن هذه الاستشارة هي مَسخ غير قانوني ولا دستوري لأنها منطلقة من استشارة إلكترونية لم يشارك فيها أكثر من 90 بالمئة من الشعب (في استناد إلى ضعف نسب الإقبال على المشاركة في الاستشارة الوطنية الإلكترونية التي انتهت آجالها بتاريخ 20 مارس الفارط)؛ يشير المعارضون إلى ذلك الفشل بوصفه ضربة مؤلمة يتلقاها "مشروع قيس سعيد"، وبأنه، ولئن كان إخفاقا، فإنه خطوة أولى خطيرة نحو ترسيخ الحكم الفردي والاستبداد.

ومهما يكن من أمر المعارضين لإنشاء هذه اللجنة التي تعد بجمهورية جديدة، فإن العودة غير المتشنجة على التفاصيل المحيطة بإعلان قيامها واستئناف عملها عبر تحديد تركيبتها ورؤسائها ومرؤوسيها لهو أمر ضروري، وذلك في سياقات لخبطة معممة تتضارب فيها المصالح بالمخاوف.

بحسب خارطة الطريق التي كشف عنها الرئيس التونسي نهاية العام الماضي، من المنتظر أن تكتب اللجنة المكلفة مشروع دستور جديد بناء على المقترحات المجمعة من الاستشارة الإلكترونية. نفس تلك الاستشارة الوطنية الالكترونية لم تتجاوز نسب المشاركة فيها 7 بالمئة من المعنيين بالحق الانتخابي، وهو ما يضعف من مشروعية أي مخرجات للاستشارة تكون متماشية مع منحى تأييد صياغة وعرض مشروع دستور على استفتاء شعبي في 25 جويلية المقبل. بالإضافة إلى هذا المعطى، فإن المرسوم عدد 30 المنشئ للهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة يقرّ أن الدعوة للاستفتاء لن تكون مرفقة بنص مشروع الدستور كما يقتضيه القانون الإنتخابي. وبالتالي، لن يكون هناك مداولات عامة و شاملة حقيقية و جدية حول الدستور الجديد، وهو ما يجعل من موضوع الاستفتاء عليه لاغيا من جهة إعطاء الشعب حق الموافقة على مشروع الدستور أو رفضه؛ كيف يمكن للشرائح الشعبية أن تختار الموافقة أو رفض مشروع دستور هي غير عالمة بمحتواه! بل كيف سيعلم الشعب التونسي أن المقترحات التي ستقوم اللجان بتأليفها نابعة من إرادته التي عبّر عنها وأكّد عليها في الاستشارة الوطنية التي يصرّ الرئيس قيس سعيد على أنها محرار كامل عملية بناء الجمهورية الجديدة وصياغة دستورها؟

لا يستقيم مثل هذا الخلل مع الأثر الانبعاثي الموعود من خلال هذا التأسيس الدستوري لجمهورية جديدة تقطع مع ويلات سنوات من الصبيانيات والمهاترات السياسية في الحد الأدنى، ومع التطبيع مع الفساد والاستهتار والإرهاب المهرق للدماء في الحد الأقصى.

وعلى مستوى أخر، يعدّ تعيين بعض الأسماء على رأس مناصب مهمة في اللجان الاستشارية مضرا بمدى مصداقية عمل هذه اللجان ومخرجاتها؛ مثلا، يُستغرب تعيين عميد المحامين التونسيين، إبراهيم بودربالة، على رأس اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية و الاجتماعية وهو الذي لا دراية له بشؤون الاقتصاد غير أنه "متصرف حكيم في موارده المالية في بيته" حسب ما أكده مازحا بخصوص الأمر خلال مقابلة أجريت معه على إذاعة موزاييك اف ام التونسية. إضافة إلى ذلك فإنّ تعيينه بصفته عميد المحامين التونسيين التي بقي من مدّتها 6 أسابيع غير سليم، إذ أنّه مُلزَم حسب مرسوم المحاماة التونسي بالتّفرّغ لمهمّة العمادة إلى حدود 5 جويلية 2022، ومُلزم بمقتضى نفس المرسوم بتسليم العهدة للعميد الجديد الذي سيتم انتخابه. ولذلك فإن مثل هذه التسميات، مع احترامنا لبعض أسمائها طبعا، سوف لن تعود إلا بالوبال على عمل هذه اللجان التي تلقى رفضا شديدا أصلا.

وبمناسبة الحديث عن اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، فإن عدم تشريك بعض المنظمات التي تعنى بالشأن الاقتصادي والاجتماعي أساسا سينتج عنه ضعف فادح في الإلمام والإحاطة بكافة التحديات الاقتصادية وآثارها الاجتماعية على التونسيين؛ لا نعتقد أن غياب منظمة من قبيل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثلا، هو أمر صائب، إذ لا يمكن أن يكون لمنظمات أخرى موجودة صلب اللجنة المذكورة (مثل الاتحاد الوطني للمرأة التونسية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان) نفس الأهمية في مجالات دراسة وفهم الشأن الاقتصادي والاجتماعي

كما أن غيابا عالي الاحتمال للاتحاد التونسي الشغل، أكبر منظمة من حيث الوزن والنفوذ، عن المشاركة في أعمال اللجان سوف لن يحدث إلا الضرر البالغ على مخرجات عمل الهيئة الوطنية من أجل جمهورية جديدة ككلّ؛ لقد قال الاتحاد العام التونسي للشغل أنّ الحوار الذي يقترحه الرئيس قيس سعيد بهذا الشكل مرفوض، وذلك في أول تعليق على قرار الرئيس تعيين لجان استشارية لصياغة دستور جديد واقتراح إصلاحات اقتصادية وسياسية. إن الاتحاد العام التونسي للشغل هو أهم الفاعلين الوازنين في البلاد، إذ ينضوي تحت لوائه نحو مليون تونسي يخولون له دورا معارضا جد فعال. وبالإضافة إلى ذلك، فإن غيابه عن هذه اللجان، في إعلان صريح عن رفضه لهذا المسار، سوف يطبع مسار 25 جويلية بانتكاسة كبيرة باعتبار أنه كان من المساندين لهذا المسار التصحيحي منذ تلك الليلة المشهودة في أواخر شهر جويلية من سنة 2021.

لا يختلف اثنان على واقع أن السنوات السبع التي تلت دخول دستور سنة 2014 حيّز التنفيذ هي سنوات انهيار على جميع المستويات، فلا جميع فصول الدستور وقع تفعيلها ولا المؤسّسات السياسيّة عرفت استقرارا ونجاعة ولا عجلة الاقتصاد عادت للدوران. وإن ثمّة شبه إجماع أنّ رئيس الجمهوريّة حين برّر قرارات 25 جويلية 2021 بوجود خطر داهم على الدولة لم يكن بصدد المبالغة أو التهويل. ولكن المضي في مسار بناء جمهورية جديدة باتباع نفس بعض الأخطاء التي تم ارتكابها خلال تلك الفترة لن يكون صائبا، بل سيكون داخلا في باب اجترار نفس الزلات الذي لن يؤدي إلا إلى نفس النتائج العقيمة؛ يقول الفقيه القانوني نضال المكي أنّه قد تبيّن أنّ من المستحيل تحقيق تملّك تامّ من قبل عموم الشعب للدستور، ولكنّ من السهل جدّا الوصول إلى اغتراب كلّي للشعب عنه. فنصّ الدستور مهمّ وكذلك المسار المرتكز على المقاربة التشاركيّة، ولكنّ الأهمّ يبقى دائما ما يعتبر عموم الناس أنّ الدستور حقّقه لهم في حياتهم اليوميّة.