لا شك إننا عندما نتكلم عن الإصلاح في أي مجال فنحن نتكلم عن تحسين الوضع القائم وأننا نقر بوجود خلل ما يجعل من الحالة القائمة غير سوية وتحتاج للتعديل بصورة تجعلها أفضل مما هي عليه ، وعندما نتكلم عن هذا الأمر في الإقتصاد فنحن نقر بأن الأوضاع الإقتصادية أو حالة الإقتصاد تحتاج لإتخاذ جملة من الإجراءات أو إصدار قوانين أو تشريعات من شأنها أن تعالج التشوهات التي يعاني منها النظام الإقتصادي ، هذا النظام الذي عندما نتحدث عنه فإننا نتكلم على الجانب الحياتي الأكثر تأثيراً في الناس وفي الدولة على حدٍ سواء ، وبالرجوع لما صدر في ليبيا من قرارات وصفت بأنها إصلاحات إقتصادية فمن المفيد ان تطرح وجهات نظر المتخصصين في هذا الأمر بغض النظر عما إذا كانت هذا الاراء مع أو ضد تلك القرارات ، 

من ناحيتي فإني أعتقد ان أي محاولة لإحداث إصلاحات إقتصادية في ظل الوضع الراهن لن تكون ذات قيمة على مدى ليس بالبعيد فهي ليست إلا كإعطاء مسكن لجسم ينخره المرض أو كنوع من علاج للأعراض دون علاج المرض نفسه فقد تظهر على جسم المريض الذي يعاني من مرض داخلي بثور أو تشققات خارجية وعلاج تلك البتور أو حتى شفائها في البداية لا يعني شفاء المريض من المرض المسبب لتلك الأعراض ولا يعني أيضاً عدم عودة تلك البثور مرة أخرى وذلك بسبب أستمرار المرض، وبتصوير أخر للإصلاحات في هذه الحالات يمكن أن نصورها كمن يبني منزلاً على أساسات غير تابثة سرعان ما ينهار  بعد بناءه عند أقل إهتزاز .

 لذلك أقول إن مشكلة بلادنا الأولى والأساسية والمسبب لكل ما نواجه من مشاكل إقتصادية وإدارية وصحية وتعليمية وبيئية وغيرها هي حالة الفوضى التي تعيشها البلاد وغياب الدولة والإنقسام في المؤسسات وتعدد الحكومات والصراع السياسي والتدخلات الدولية والفلتان الأمني والفساد المالي والإداري .. الخ ،لذلك لا يمكن بناء أي أحلام على قرارات - سمها ما شئت - لإصلاح هذه الفوضى مالم تعالج المشكلة الأساسية السياسية والأمنية، من ناحية أخرى فإن بعض الإجراءات قد يكون ضررها في ظل هذه الظروف أكبر من نفعها ويبدو أن هناك من يدفع في هذا الإتجاه دون ان يفكر في الأثر السلبي الذي قد ينتج عن هذه الإجراءات على الإقتصاد الوطني ، 

وهنا لن نتكلم عن قانونية تلك القرارات التي صدرت فهذا أمر أخر لا يعنينا هنا ولكننا سنتكلم عن المفاهيم وعن النتائج أيضاً فعندما نتكلم عن إصلاحات إقتصادية فالمفترض إننا نتكلم عن الإقتصاد بفرعيه الكلي والجزئي وعن المشاكل التي يعانيها وعن نتائجها المنعكسة سلباً على المواطن فأرتفاع الأسعار وما يسببه من إنعدام قدرة المواطن على إشباع حاجاته سيؤدي حتماً لمشاكل إجتماعية كبيرة لا حدود لحصرها .. ولكن هل يمكن أن تكون هناك اصلاحات اقتصادية لا تشمل الا جانب واحد أو جزئية واحدة من العوامل المؤثرة في الإقتصاد دون التفكير في إصلاحات حقيقية؟
 إن إصلاح الإقتصاد يتطلب إحداث تغييرات جوهرية في النظام مثل تغيير الهيكل الإنتاجي بما يحقق زيادة في الناتج المحلي ويدفع الإقتصاد نحو النمو وتحقيق التوازن في ميزان المدفوعات ويمّكن من القضاء على التضخم وكذلك إصدار القوانين والتشريعات التي تشجيع الإستثمار الخاص وأيضاً الإصلاحات الضريبية وزيادة الإيردات وتخفيض النفقات.. الخ ، وكل ذلك لا يتم إلا برسم سياسة إقتصادية على أسس علمية وبتفكير عميق ووفق خطة وأدوات تضمن تحقيق الأهداف المبتغاة ، فليبيا بلد صغير ويعاني اليوم مشاكل كبيرة فإقتصاده ريعي وليس له مصدر للدخل إلا النفط والغاز  ونحن نعلم مخاطر أن يكون الإقتصاد مبني على مصدر واحد للدخل أو على مورد طبيعي لا ضمانات لثبات أسعاره ولا على حجم إيراداته وعلاوة على ذلك يعاني هذا الإقتصاد من مشاكل كثيرة تبدأ من زيادة الأنفاق العام بصورة تفوق كل منطق وتضخم في الجهاز الإداري في الداخل والخارج وتدني في الإيرادات يجعل ميزان المدفوعات دائماً في حالة عجز .. 

لن نفصل أكثر في الأمر ولكن سنتجه مباشرة لما سمي إصلاحات إقتصادية وهي جملة من الإجراءات أستهدفت أسعار صرف العملات الأجنبية وتداولها - والتي لم يحدث لها هذا الارتفاع الجنوني إلا بسبب الظروف السياسية التي ذكرنا - وبصورة عملية نستطيع القول تغيير قيمة الدينار ، ومن المعروف إقتصادياً أن إحداث تغييرات في قيمة العملة الوطنية لأي بلد بخفضها يستهدف في الغالب تحفيز الإقتصاد لزيادة الصادرات من السلع المحلية مما يؤدي إلى تدفق العملات الأجنبية وتحسين وضع الميزان التجاري للدولة ولكن هذا الأمر لم يكن هو هدف ما أتخذ من قرارات بالخصوص وإن ما أُقر من إجراءات لا يعدو إتاحة الحصول على الدولار من المصرف المركزي وعرضه كسلعة يمكن للجميع الحصول عليها بشرط واحد هو المواطنة فأنت كمواطن يحق لك الحصول على مبلغ 1000 دولار ( 500 صرفت و500 ستصرف) تحت بند منحة أرباب الأسر ولك الحق في تحويل مبلغ 10000 دولار كل سنة وفق طرق التحويل أي عن طريق بطاقة الائتمان أو وسائل التحويل المعروفة وهذه القيمة غير مقيدة بشروط أو ضوابط وكذلك يمكن للدارس أو المريض أن يحول لجهة تدريسه أو علاجه قيمة 10000 دولار أما التحويل للأغراض التجارية أو الإستيرادية الأخرى فسيكون سعر الدولار كما توقع البعض - أتفق معهم في هذا - سيكون بين 4 - 4.5 دينار للدولار والأن لنأتي لتوقع ما سيحدث .. 

لا شك أن مثل هذا الإجراء سيؤدي إلى خفض أسعار الصرف في السوق الموازي وهذا ما بداءنا نراه مباشرة بعد إعلان قرار الإصلاحات هذه وهذا طبيعي ناتج عن توقع توفر العملة وزيادة عرضها بل سيزداد الإنخفاض أكثر لأن الكثير من صغار تجار العملة أو ممن يحتفظون ببعض المبالغ من منحة الأسرة انتظاراً لإرتفاع الأسعار سيبادرون لبيع ما لديهم خوفاً من زيادة إنخفاضها وضياع فرصة تحقيق أرباح أكبر منها وسيقل الطلب من التجار الكبار انتظاراً لإنخفاضات أكثر وإلى مباشرة فتح الإعتمادات أو بيع العملة للمواطنين ثم ماذا سيحدث ؟ 

قياساً بما حدث منذ مباشرة بيع ما سمي منحة أرباب الأسر التي لاحظنا الإزدحام الذي حدث أمام المصارف بسببها وتابعنا تصريحات المصرف المركزي عن إجمالي المستفيدين من هذه المنحة والذين وصل عددهم 7.2 مليون (كنت أعتقد أن عدد الليبيين أقل من ذلك ) وعلمنا جميعاً بسوق بيع البطاقات وسحب الأموال في تركيا ومالطا وغيرها من الدول ، قياساً على ذلك فأنا أعتقد جازماً أن أحداً لن يترك قيمة المخصص له والتي أصبحت حقاً مكتسباً ، ولأن الكثير من الناس لا تملك المال الكافي لشراء هذه البضاعة فسيقومون ببيعها أو بالأصح بيع حقهم في الحصول على الدولارات لمن يملك -وهم كثيرون .

ونحن نعرف أن هناك مئات الملايين بل مليارات من الدنانير خارج المصارف أغلبها مكنوزة وستتلقف كل دولار متاح - وبما أن العرض كبير فإن الفارق بين قيمة شراء المواطن والشراء منه لن يكون كبير والربح لن يكون مجزياً ولكن رغم ذلك سيؤدي بيع السلعة ( الدولار) إلى زيادة النقود بإيدي الناس بدل أن كانت مكنوزة لدى قلة وهو ما سيؤدي إلى زيادة حجم الأموال المتداولة والذي سيقود إلى زيادة أسعار السلع التي ستكون مرتفعة أساساً بسبب إنها قد أستوردت وفق أسعار الصرف الجديدة وهكذا لن يتحصل المواطن على أي فائدة من كل ما حدث ولكن سيستمر سعر الصرف في السوق الموازي شبه ثابت عند مستوى معين ولكن هل بالإمكان إستمرار الحال هكذا لفترة طويلة ؟


 طبعاً هذا مستحيل لأن إيرادات الدولة من النفط محدودة ولا يمكن أن تغطي كل هذه الإستحقاقات بأي حال من الأحوال - هذا إذا تجاهلنا كل إحتياجات الدولة الأخرى ونفقاتها وهي كثيرة جداً - فلكي تغطي قيمة 10000 دولار لكل مواطن تحتاج لقيمة أكبر مما يتحقق من إيرادات إجمالية ناتجة عن بيع النفط وعند أعلى إنتاج ممكن تحقيقه وبأعلى سعر يمكن أن يباع به البرميل - الذي تبلغ تكلفة إنتاجه في ليبيا حسب الأوبك 28.8 دولار عندما كانت ظروف الإنتاج والتصدير في أحسن أحوالها .

وقد يقول قائل أن حجم العملة المحلية المتوفرة أساساً لا يمكن أن تشتري العرض المتوفر من الدولارات فأقول إنه في هذه الحالة وبسبب الأرباح التي تتحقق في هذا السوق للكل فستزداد سرعة دوران النقود لتعوض العجز في كمية الدينار - هذا في حالة أن كمية النقود محدودة - وفي هذه الحالة ستحدث حالة من إثنين إما الإستمرار في توفير الدولار وفق هذه الظروف وهو ما لا يمكن أن يكون إلا إذا تم إستخدام الإحتياطي لدى المصرف المركزي لتوفير المطلوب وهو ما سيؤدي في النهاية إلى نفاذه أو الحالة الثانية وهي العجز عن الإستمرار في بيع الدولار للناس بسبب ما ذكرنا وبالتالي سيحصل أحد أمرين أخرين إما أن يتم تخفيض قيمة مخصصات الأفراد القابلة للبيع والتحويل أو التوقف عن توفير الدولار وفي الحالتين ستعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل هذه الإجراءات ولكن بإختلاف بين الحالتين. 


هذا تحليل نظري يمكن أن يجد من يرى غيره وقد يحدث من الناحية العملية ما يؤثر في المعطيات والظروف الموجوة وبالتالي تتغير النتائج التي يتوقعها هذا التحليل ، ولكن إذا أستمرت الظروف كما هي فأعتقد أن النتائج لا يمكن أن تكون إلا كما ذكرنا.


أكاديمي ليبي