طرحتُ وعلى مدار أكثر من عام عدداً من البدائل الممكنة للاقتصاد الوطني بعيداً عن النفط وعن إقطاعية الدولة بالاستفادة من تجارب دولة سبقتنا، وكنت دائماً أرى في تجارب المانيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية الاقتصادية خيرعبرة ممكن أن نستقيها، كما أن تجارب رواندا واثيوبيا وهي الاقرب إلينا جغرافياً وتستحق الاشادة رغم إختلافها في الشكل والمضمون مع نهضة المانيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية.

كلنا نعلم أن "لي كوانغ يو" قد إعتلى منبراً وهو دامع العينين قبل أكثر من 50عاماً مُخاطباً سكان مدينة مُحطمة تحولت بين عشية وضحاها الى دولة مستقلة وهي لاتمتلك مياه صالحة للشرب، وتعتبر في حينها من أكثر الدول فساداً في العالم، كما أننا جميعاً نعلم أن الحلفاء قد أمعنوا في تدمير وتحطيم ألمانيا، كما أن اليابانيين قد دمروا كوريا الجنوبية عن آخرها قبل أن يخرجوا منها بعد إحتلال دام لاكثر من 3 عقود من الزمن، والأدهى والامر هو تقسيم دولة كوريا الموحدة إلى دولتين بنهاية العام 1945 : واحدة في الشمال تمتلك المصانع ومحطات الكهرباء وأخرى في الجنوب مدمرة ولاتمتلك شئ، قبل أن تندلع لاحقاً حرب أهلية بين الكوريتين استمرت لثلاث سنوات، لازالت آثارها شاهدة حتى اليوم، كل هذه التجارب المأساوية عاشتها شعوب ليست أفضل منا في شئ، ولكن ماميزها هو نهضتها مجدداً من تحت الركام وبمحض إرادتها، بل أن الاقتصاد الالماني صار هو الاقتصاد الاول في أوروبا والثالث عالمياً، وأنا عن نفسي أعتبره الاول قياساً بظروف ومساحة وموارد وعدد سكان المانيا إلى ظروف ومساحة وموارد وعدد سكان الولايات المتحدة والصين المتصدرتين للاقتصاد العالمي.

لقد تناولتُ في مقال سابق نهضة سنغافورة، وكيف بنت إقتصادها على إقتصاد الخدمات (اللوجستية والمالية)، وفي الاسطر القادمة سأتناول نهضة المانيا بأعتبارها أكثر دولة تضررت من الحرب العالمية الثانية من جهة، وبإعتبارها رائدة الاقتصاد الاوروبي بعد أقل من 40 سنة من تدميرها بالكامل من جهة أخرى.

لقد كانت كلمة السر في نهضة المانيا هي التعليم التقني، وأن النهضة الاقتصادية الالمانية الاقتصادية تحديداً كان ورائها المشروعات الصغرى والشركات الناشئة، وبشئ من التوضيح : فإن المانيا تُعد الدولة الاوربية الاولى التي تُولي إهتماماً بالتعليم التقني والفني والمربوط مباشرةً بسوق العمل، وبالتالي فإن مدخلات التعليم التقني الالماني تتغير بإستمرار وفق حاجة سوق العمل، وأما فيما يخص الانتاج الالماني فالجميع يقفز إلى ذهنه مباشرةً علامات المرسيدس والفولكسفاجن وبوش وسيمنس وBMW ، ولكن في حقيقة الامر فإن الشركات العملاقة لاتمثل إلا 30% من إجمالي الشركات الالمانية فقط، فإجمالي عدد الشركات الصغيرة والمتوسطة والتي تُشكل العمود الفقري للاقتصاد الالماني قد بلغت 3.3 مليون شركة بنهاية العام 2017، وأنها تستوعب نحو 90% من مخرجات التعليم التقني الالماني. 

إن نجاح المشروعات الصغرى في المانيا هو حتمي وطبيعي بسبب ربطه بمنظومة التعليم من جهة، ولتبني الحكومة والمصارف التجارية لبرنامج واقعي للتمويل والاقراض من جهة أخرى، فالتمويل يُمثل العقبة الاكبر أمام نجاح المشاريع الصغيرة أو حتى الكبيرة، ووفقاً لدراسة نشرها مصرف "كوميرس بنك" أحد أكبر مُقرضي الشركات الصغيرة والمتوسطة في ألمانيا فإن الميزانيات العمومية القوية والتي تبلغ حقوق المساهمين بها نسبة 39% من الأصول قد ساعدت هذه الشركات كثيراً كون أن الأسُرالمالكة للمصانع والمشاريع هم فقط من يتعرضون للمخاطر، ولذلك فهم يميلون إلى التصرف بطريقة أكثر إستدامة وبتفكير طويل المدى، ومن جانبه يرى الخبير العالمي "هيرمان سايمون" أن التسمية المناسبة للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم الرائدة في مجالها في المانيا هي الابطال المخفيون، وأضاف سايمون أن من بين 2700 شركة رائدة على مستوى العالم فإن نصفها يتركز في ألمانيا، وأن الشركات الألمانية تفوق نظيراتها في الاتحاد الأوروبي من حيث الحجم بنسبة 1 الى 2.7، كما أن المانيا قد تصدرت جودة الاداء اللوجستي العالمي في آخر سبع سنوات متتالية، وهذا بدوره ساهم في الرفع من جودة جميع الخدمات في المانيا.

أختم بالقول أنه لانهضة بدون تعليم، وأن التعليم التقني أولى من غيره من العلوم في ليبيا (في المدى المتوسط على الاقل) ، وأن الابتعاد عن إقطاعية الدولة وعن فكرة كون النفط سيبقى المصدر الوحيد للدخل للدولة الليبية صار ضرورة ، وأن أول البدائل المطروحة للاقتصاد الوطني هو حاضنات الاعمال والمشروعات الصغرى والمتوسطة المبنية على المواد الخام المحلية كما أشرت وأشير دائماً.


الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة