بعد مصادقة البرلمان التركي على الاتفاقية الأمنية مع حكومة السراج، شرع الأتراك في وضع لبلتفاق موضع التنفيذ الرسمي والعلني. ولكن مع وجود صعوبات لوجستية وعملياتية تتمثل في عدم وجود قاعدة آمنة يمكن استخدامها كرأس جسر لتمركز وحشد القوات ونقل الإمكانيات والامدادات اللازمة للقوات التركية التي صرح أردوغان بعزمه الزج بها في ميادين القتال. كان الخيار اامأمول أمام الأتراك هو إعادة تفعيل سيناريو 2011، والانطلاق من الأراضي التونسية كقاعدة لإمداد قوات الوفاق والقوات التركية التي سينشرها الترك في ليبيا. لوضع هذا السيناريو موضع التنفيذ، طار أردوغان إلى تونس في زيارة مفاجئة لم يعلن عنها مسبقاً لعرض الأمر على السلطات التونسية، وتأمين موافقتها على التعاون في هذا الشأن. مانت حسابات أردوغان مبنية على جملة من المعطيات؛ التي من أهمها وفي مقدمها، النفوذ الذي يتمتع به الإخوان المسلمون في تونس من خلال تمتع حزب النهضة بالأغلبية في مجلس نواب الشعب، الأمر الذي اعتقد أردوغان بأنه سيسهل عليه انجاز المهمة. والأمر الآخر هو الصعوبات الاقتصادية التي يعانيها الاقتصاد التونسي، والتي يمكن أن تشكل سبباً لتنازل تونس وانخراطها في هذا العمل مقابل ضخ أموال قطرية وإخوانية في شرايين المصرف المركزي التونسي وتنشيط التبادل التجاوي مع تركيا وأخواتها. ناهيك عن بعض العوامل المكملة الأخرى التي لا مجال للخوض فيها الآن مثل الدعم الليبي والتسهيلات اتي يمكن أن تقدمها حكومة الوفاق أثناء العملية وبعدها. واعتقد أردوغان بأنه قد حقق الاختراق بعد تصريحات غير دقيقة نسبت للرئيس سعيد. ما لم يتفطن له الأتراك هو وعي ورفض النخب السياسية التونسية لاتخاذ تونس قاعدة لتدمير ليبيا مثلما حدث في عام 2011. وبعد الغضب الذي عبر عنه الرأي العام التونسي ورفضه تأجير بلاده منطلقاُ لتدمير الجارة الشقيقة ليبيا سارع الرئيس قيس سعيد لتوضيح الأمر وتصحيح التصريحات المنقولة عنه، وأعلن أن بلاده لن تكون  قاعدة ً لأي عدوان على ليبيا. وهذا بالطبع سحب أي أساس سياسي لشرعنة أي عمل عسكري مضاد من تونس. لكن إخوان تونس لن يكونوا بمنى عن محاولات الدعم ونقل الأسلحة. إلى تنظيمهم في طرابلس.

هذه التطورات غير المرغوبة دفعت الأتراك لطرق باب الجزائر لحملها على القيام بالدور الذي كان من المأمول أن تقوم به تونس. وما حفز الأتراك لهذه النقلة غير المتوقعة من البعض، هو تغير المزاج السياسي الجزائري الداخلي بعد انهيار نظام بوتفليقة. فتصفية النظام الجزائري السابق المصنف نظاماً سياسياً تقدمياً وقومياً إلى حد ما، أدى إلى نفاذ كثير من القوى الإسلاموية إلى دائرة التأثير على عملية صناعة قرار السياسة الخارجية، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية، وبعد وفاة رئيس أركان الجيش الجزائري، الرجل القوي، الجنرال قايد صالح. أضف إلى ذلك التأثير القوي والمتنامي للقوى الأمازيغية التي تأثرت بموقف الطيف الأكبر من أمازيغ ليبيا الداعم لحكومة الوفاق ومليشياتها. ومما دفع الأتراك لهذا التحول أيضاً، رغبة الجزائر في استعادة دورها ونفوذها الإقليميين، بعد أن تعطل هذا الدور لفترة بفعل الأحداث الداخلية التي أدت لإسقاط نظام الرئيس بوتفليقة. والخطوة التركية تأتي كذلك استغلالاً للحساسية الجزائرية التقليدية من تنامي الدور والتـأثير المصري فيما تعتبره مجالها الحيوي في المنطقتين المغاربية والفرنكفونية، أسوة بما تتمتع به مصر من نفوذ في جنوب النيل والمشرق.العربي. تمثلت الخطوة التركية في زيارة وزير خارجيتهم   بغية بلورة إستراتيجية مشتركة لدعم حكومة السراج والوقوف في وجه الجيش العربي الليبي. وقد تمخضت هذه الزيارة عن إعلان الجزائر بأن طرابلس خط أحمر وغير مسموح للجيش دخولها. وعلى الرغم من بعض التصريحات التي أطلقها الجزائريون، والتي تقول أن لا حل عسكرياً في ليبيا، وأنه ينبغي على الليبيين الجلوس إلى طاولة الحوار والتفاوض. إلا أن الظاهر أن الأتراك أقنعوا أو حفزوا السلطات الجزائرية على تقديم تسهيلات من نوع ما للقوات التركية التي يزمع نظلم أردوغان نشرها في ليبيا. هذا ما عكسه تناول الإعلام الجزائري بكل أطيافه للموضوع الليبي بشكل مفاجئ ومكثف. وهذا ربما دلل على أن أمر التدخل في ليبيا قد إجمع واتفق على المضي فيه. ومما يؤكد نجاح مهمة وزير الجارجية التركي في الجزائر الإعلان عن زيارة قريبة سيؤديها الرئيس أردوغان للجزائر العاصمة. 

ولذلك فقد تغير مشهد التحالفات والاصطفافات الإقليمية، بما فيها الأدوار التي تؤديها دول الجوار. ففي الوقت الذي لعبت فيه تونس دوراً مدمراً للدولة الليبية في العام 2011، وقفت جزائر جبهة التحرير صخرة صلبة في وجه أي استغلال لمجالها في القيام بأية أعمال عدائية ضد ليبيا. تم في العام 2020 تبادل الأدوار، فامتنعت تونس عن الانجرار وراء الأطماع التركية، بينما يبدو أن الجزائر، وحتى هذه اللحظة تتماهي مع المشروع الأردوغاني المضاد لمصالح الشعب الليبي والداعم للميليشيات الإرهابية. بينما تغير دور مصر بقيادة الرئيس السيسي إلى طور إيجابي متحمس وداعم بكل قوة لخيارات الشعب الليبي وقواته المسلحة، بعد أن كان دورها قد تأثر بضغوط الإخوان والدول الداعمة لهم في العام 2011. ولا شك أن الشعب الليبي الذي يتعرض لأبشع مؤامرة دولية تستهدف وجوده وبلاده، سيظل يحفظ الجميل لأشقائه وأصدقائه الذين دعموه وساعدوه على هزيمة هذه المؤامرة. كما أنه لن يتسامح مع أولئك الذين طعنوه في الظهر وشاركوا في شلال الدم الليبي الذي لم يتوقف منذ العام 2011.

ويبدو إن التغيرات السياسية الأخيرة في الجزائر قد أعطت دفعة قوية للإخوان المسلمين  في كامل شمال أفريقيا؛ ففي تونس تتمع (حركة النهضة) الإخوانية بالأغلبية في مجلس النواب، وتشارك بنصيب كبير في الحكومة. وفي المغرب فإن حزب العدالة والبناء الإخواني (النسخة المغربية لحزب أردوغان) يشكل الحكومة المغربية ويتمتع بثقل في البرلمان. وإذا ما تمكن الإخوان من تثبت أقدامهم في المؤسسات السيادية الجزائرية، فإن الأوضاع في المنطقة لن تستقر بشكل كامل، وسيكون هذا الامتداد، والذي سيتحول حتماً إلى تحالف، إلى حطر يتهدد مصر بعد ليبيا، ولن تنجو من إرتداداته دول الصحراء ودول جتوب المتوسط. ولذلك فلا خيار أمام مصر وليبيا إلا التحالف لهزيمة المشروع الأردوغاني في ليبيا، والضعط عليه في باقي دول المغرب العربي. ولا شك في أن مصر وليبيا قادرتان على فرملة مشروع الإخوان وأميرهم أردوغان وهزيمته هزيمة ساحقة.  

الآراء المشنروة ملزمة للكاتنب و لا تعبر عن سياسة البوابة