حميد زناز

بتنا نلاحظ في السنوات الأخيرة ظاهرة تديّن لم يعرفها المجتمع الجزائري قط. هو تديّن استعراضي جماعي لا صلة له بالروحانيات بل هو أقرب الى الهستيريا الدينية الجماعية منه الى تلك العلاقة الحميمية الفردية بين المؤمن وربه التي كنا نعرفها في السنوات الأولى من الاستقلال. كانت للمساجد حرمة يرتادها المتقدمون في السن وقليل جدا من الشباب وكان للمصلي آنذاك شأنا كبيرا بين الناس إذ كان يمثل الاستقامة في نظر الجميع

لظروف متعددة أهمها سياسة امتصاص غضب الجزائريين وتقديم الفشل الحكومي الذريع على أنه أمر مقدر من الله، وعلى الجزائريين الصبر على ما شاء وقدّر، مال المجتمع الجزائري شيئا فشيئا إلى نوع من التديّن المظهري الجماعي الذي لا انعكاس له إيجابيا على الحياة الاجتماعية، فالشوارع تسبح في اكوام من االقمامة والقارورات البلاستيكية وأكواب القهوة الكارطونية المرمية في كل مكان.  "النظافة من الايمان والوسخ من الشيطان" و "من غشنا فليس منا " يردد الجزائري بمناسبة وبغير مناسبة، بينما يغرق البلد في الأوساخ والغش وكل ضروب الاحتيال

هو أمر طبيعي أحيانا أن يهرب البعض إلى التديّن الشامل في مرحلة من مراحل حياته يشعر فيها بضيق العيش وانسداد الأفق فيكون الدين ملاذه الأخير، يعوض من خلاله نفسيا ما عجز عن تحقيقه واقعيا، لكن المشكلة حينما يتحول الامر الى انحباس عقلاني شامل تتغول فيه الذهنية الخرافية ويتكلس العقل ويصبح الهذيان هوية وثقافة عامة

في وقت يحتاج فيه المجتمع الى مرشدات اجتماعيات بدأت السلطات تُكوّن المرشدات الدينيات! ولأول مرة في تاريخ الرئاسة الجزائرية يوظف الرئيس عبد المجيد تبون مستشارا رسميا له في الشؤون الدينية. كما لم يحدث أن تحدث رئيس من رؤساء الجزائر بتلك اللغة الدينية التي يستعملها السيد تبون، إذ لا تختلف بدايات خطبه عن كلام أي إمام في مسجد أثناء خطبة الجمعة. حكي الرئيس في لقاء مع الصحافة عن فيديو أعجب به ظهر فيه شخص يذبح خروفا بطريقة كئيبة ليقدمه كقربان من أجل شفاء الرئيس! كما تحدث في اللقاء نفسه عن الرعاية الإلهية التي حمته من فايروس كورونا متناسيا رعاية أطباء المستشفى الألماني الفعلية.  

ما يثير التساؤل والاستغراب هو عدم استخلاص الجزائريين لدرس الأصولية الإرهابية التي كادت ان تقضي عليهم شعبا وحكومة في عشرية دامية راح ضحيتها الوف الجزائريين وملايين الدولارات! فبدل دفنها الى الابد بعد هزيمتها عسكريا حولوا ذلك الى نصر ثقافي لها إذ لم يتعظ النظام من كل هذا الخراب، إذ بعد أن هزم الجيش بمساعدة حاسمة من الشعب الجزائري الإسلاميين عسكريا ومنعهم من الوصول إلى السلطة، جيء بالرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة ليعقد معهم عقدا يعفو على جرائمهم تحت اسم "الوئام والمصالحة الوطنية" مقابل امتيازات وأموال طائلة، ثم قدم لهم المجتمعَ الجزائري كهدية مرة أخرى فزرعوا فيه تدينا شعبويا قاد الأغلبية إلى نوع من الاتكالية اللاعقلانية قد تطيل من عمر التخلف سنينا .    

يجول ويصول الاصوليون اليوم كما شاؤوا ويفرضون ايديولوجيتهم على الغير في الفضاء العام، فينادون للصلاة على الشواطئ وينظمون صلوات جماعية لاستفزاز المصطافين ولا يتورعون في استخدام مكبرات الصوت المحمولة لإطلاق صوت الآذان ويقيمون الصلاة في الشوارع لاستعراض قوتهم العددية 

كما تعمل وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، التي دجّن النظام أغلبها تدجينا كاملا، على نشر ثقافة دينية قروسطية لا علاقة لها بالعصر، فتركز على أخبار الدجالين والمحتالين ومآثرهم الكاذبة في علاج الأمراض المستعصية كالسرطان والإيدز وكوفيد – 19، وإخراج الجن من أجساد الفتيات. في الجزائر اليوم يضاهي عدد الرقاة عدد الأطباء وربما يفوقه بكثير

وسط شعبوية دينية متصاعدة كان منتظرا أن نشهد سلوكيات يصعب تصديقها لولا أنها موثقة صوتا وصورة. منذ أيام فقط قام رجل دين وهو يخطب على مجموعة من الحجاج الجزائريين في مكة بتحريف مفضوح لكلمات اغنية جزائرية تعود الى فجر الاستقلال مطلعها: "يا محمد مبروك عليك والجزائر رجعت ليك"، فأولها صاحبنا باكيا منتحبا، يثير الشفقة في تكلفه قائلا بأن المغني كان يقصد محمد الرسول وأن استقلال الجزائر كان هدية له! في حين أن باقي الاغنية يفنّد ما يدعي تماما إذ كان الجزائريون ولحد اليوم حينما لا يعرفون اسم أحدهم ينادونه: محمد أو سي محمد.  في 2019 ادعى جزائري من الصحراء النبوة قائلا ان الله أرسله وحمّله رسائل وآيات الى قايد الأركان آنذاك احمد قايد صالح

أما الشيخ شمس الدين الجزائري الذي افتى سنوات على قناة النهار واليوم يواصل الأسلمة على قناة الشروق فيقول بجرأة كبيرة أنه رأى في المنام رسول الاسلام فلما طلع الفجر خرج يبحث عنه في مساجد الجزائر العاصمة حتى وجده في مسجد يقع في حي بلوزداد. كان الرسول جالسا وحده ولم يتعرف عليه من كانوا في المسجد، فتقدمت، يقول المفتي، فتبسم لي وقلت له: "واش راك تدير هنا يا رسول الله؟"، ماذا تفعل هنا يا رسول الله؟ فأجابني الرسول صلي الله عليه وسلم: جئت لأعلم الجزائريين القرآن.  أما الميدالية الذهبية في الهستيريا الدينية فتعود الى ذلك الامام الذي سأل الرسول عن أي بلد أحب الى قلبه فقال الجزائر ثم الجزائر ثم الجزائر ثلاث مرات.  في كثير من الأحيان يصبح التديّن المفرط مرضا عقليا معديا قد يصبح مع الأيام جماعيا