" فرق كبير بين دولة يوجد فيها دستور ودولة دستورية، فلا تكون الدولة دستورية الا اذا كان دستورها معبراً عن توافق وطني ویحظى برضا عام في المجتمع. وتبقى الدولة غیر دستوریة على رغم وجود دستور فیھا، إذا طغت السلطة التنفیذیة على القضاء والبرلمان فصارت إرادتھا غالبة ومعطلة لحق الشعب في أن یكون ھو مصدر السیادة" 

الدكتور وحيد عبد المجيد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة


 
 

مدخل عام

الدستور من جهة المفهوم والماهية قانون أعلى، يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أو مركبة) ونسق الحكم(ملكي أو جمهوري) وشكل الحكومة (رئاسية أو برلمانية) وينظم فيها الصلاحيات من حيث التكوين والاختصاص ..انه كما قيل وثيقة التأمين على حياة الشعوب والواقع ان الدستور هو الذي يخلق النظام القانوني في الدولة، فكل قانون يصدر يجب ألا يخالف أحكام الدستور.

وعلى اعتبار أن الانسان حيوان عاقل ومدني بطبعه ،كانت الدولة ظاهرة تاريخية وواقعة اجتماعية تفصل بين الانسان جامع الغذاء وصانع الغذاء. واستقراء التاريخ يضعنا امام نماذج ارتفع فيها منسوب الوعي الحضاري وارتقى فيها الفكر القانوني لدى بعض الشعوب فأبدعت قوانين في محاولات أولى لبناء ما أطلقنا عليه اليوم اسم دولة القانون .

في مصر الفرعونية ظهرت مدوَّنة قانون بوخوريس، وهي من اشهر المدونات القانونية ،وبوخوريس هو احد ملوك الاسرة الفرعونية الرابعة والعشرين الذي حكم مابين عامي ( 712 - 718 ق . م ) ويؤكد فقهاء القانون والمؤرخون ان هذه المدونة هي الصورة الاخيرة التي استقر عليها القانون المصري القديم، وفي بلاد العراق ظهرت شريعة حمورابي وهناك من يعتقد انها شريعة تضمنت قوانين ارقى وانبل من القوانين التي نعرفها اليوم ، وفي بلاد الهند ظهرت مدوَّنة قانون مانو، بينما ظهرت في بلاد الإغريق أو اليونان القديمة مدونة قانون دراكون وكذلك قانون صولون، في حين صدرت في بلاد روما القديمة مدوَّنة قانون الألواح الاثني عشر. 

وإذا كان من المسلم به ان وضع القوانين وإلزام الشعوب بها فكرة لازمت كل الحضارات القديمة الا انه يجب التأكيد على ان ظهور الدستور بشكله الحديث لم يكن بهذا القدم، والدراسات التاريخية تضع إنجلترا رائدة الدستور. ثم دستور الاتحاد الأمريكي في العام 1787.

في كل الحالات سواء كنا نتحدث عن نشأة الدساتير او تعديلها فانه لا يمكن ان نفصل الدستور عن الدولة واذا كانت هذه الأخيرة هي النموذج الذي من خلاله يحقق الانسان كماله كما كان يقول ارسطو، فان الدستور في بعده الفلسفي تعبير عن إرادة الفرد الحرة في الارتقاء نحو الكمال، ولذلك الدول العظمى ارتقت وتطورت من خلال احترام دساتيرها ،وكذا لان شعوبها عرفت كيف تحتفي وتحتفظ بكنزها الذي كانت تبحث عنه.

يصور لنا صاحب كتاب ( الرجال الذين اخترعوا الدستور صيف 1787) هذا التلازم بين إرادة الشعب وبناء الدستور مؤكدا ان الشعب هو الذي يقرر:" كان الاحتفال مشبعا بالرمزية الى حد أنه سمي " مهرجان الحكاية المجازية" صرح الدستور بأن الذي كتبه هو" نحن الشعب " لذلك اشرك المنظمون كل الشعب .ضم الاستعراض المجموعات الاعتيادية :الفرق والجنود والوجهاء .لكن المشاركين البارزين في الاستعراض كانوا عمالا منحدرين تقريبا من خمسين مهنة وحرفة من الجزارين الى صانعي الحبال ،ومن النجارين الى الموظفين ومن بائعي القبعات الى صانعي البراميل لقد ارت فيلاديفيا كيف تسجل جمهورية مولدها"

ومن منطلق ان الدستور صناعة بشرية قد تحتوي على أخطاء ومغالطات يكون لزاما الانصات الى منطق العقل والحديث بصوت مسموع عن مشروع تعديل الدستور في الجزائر المقرر التصويت عليه يوم الفاتح من شهر نوفمبر والذي يروم التأسيس لميلاد دولة جديدة، ولاعجب في ذلك فالدلالة المعجمية لكلمة الدستور في اللسان اللاتيني ( Constitution) تحيلنا الى معاني الإنشاء والبناء التثبيت والتنصيب .وبين التنظير والممارسة تطرح تساؤلات عديدة .

سنحاول من خلال هذه الورقة في محاولة أولى التطرق الى المواقف المعارضة والمؤيدة للتعديلات الدستورية لعلنا نفتح نافذة من خلالها نرى الراهن على حقيقته على أمل تغييره، لذلك الاقتراب من إشكالية التعديل الدستوري في الجزائر مسألة بالغة الاهمية .

التعديل الدستوري عائق يجب تجاوزه أم أمل يجب التمسك به؟

نستطيع ان نميز كنقطة انطلاق بين اطروحتين :معارضة وأخرى مؤيدة ،الاطروحة المعارضة تنطلق من الفكرة القائلة ان أي محاولة لتمرير التعديلات الدستورية وفرضها كأمر واقع، مثلما حدث مع رئاسيات 12 ديسمبر ستؤدي الى أوخم العواقب ،وان الأهم في هذه المرحلة هو العمل على تغيير القوانين الحالية، و تنظيم انتخابات تشريعية مسبقة نزيهة ينتج عنها تمثيل حقيقي للشعب، يسبقها سن قانون لمحاربة الفساد. وانه من غير المقبول تغييب الإرادة الشعبية لصالح لجنة الخبراء لذلك كتب الدكتور ناصر جابي، وهو أكاديمي جزائري وباحث في علم الاجتماع السياسي مقالا في القدس العربي بعنوان الدستور الجزائري: العيوب والتحديات القديمة نفسها جاء فيه :"آخر من يتدخل في إعداد الدستور هو الشعب، السيد صاحب الشرعية التأسيسية. كما كان الحال في كل المحطات السياسية، غياب للشعب يتم تعويضه بالمناضل الحزبي، أو البرلماني المشكوك في شرعية انتخابه، أو الخبير القانوني، ليكتفي المواطن بالمشاركة في استفتاء مطعون في نتيجته، كآخر محطة في إعداد الدستور" في نفس السياق حركة مجتمع السلم بدورها قدمت عدة تحفظات على وثيقة التعديل وقررت التصويت ب”لا”، وسرد مقري، في فيديو نشره على تويتر، "مطالب حركته المرفوضة"، مشيرا إلى أن المشروع التمهيدي للدستور "لم يحقق النصاب المؤهل للانتقال الديمقراطي"، معتبرا أنه "بعيد كل البعد من أن يكون دستور ثورة خرج فيها 20 مليون جزائري للشارع". في مقابل ذلك إسماعيل دبّش، المستشار السابق برئاسة الجمهورية يرفض هذا الطرح قائلا : "لا أتصور أن موقف الإسلاميين يتماشى مع حقيقة البعد الإسلامي وإرادة المجتمع الجزائري المكرسة في محتوى الدستور، سواء باعتباره دينا للدولة أو من خلال بيان نوفمبر والنسق العام للأمة".

ويعتقد دبّش أنّ خيار الأحزاب الإسلامية بشأن الدستور هو عمل سياسي أكثر مما هو موقف قيمي مبدئي، فهي "تريد تحقيق مكاسب باسم المعارضة".


 
 

الأطروحة الرسمية، على لسان رئيس الجمهورية ترى، أن المشروع ينسجم مع متطلبات بناء الدولة العصرية ويلبي مطالب الحراك الشعبي »، ما يستدعي برأيه «التحلي بالواقعية والابتعاد عن الانغماس في الجزئيات والشكليات على حساب الأمور الجوهرية ذات العلاقة بالأسس الدائمة وهذا الموقف يصب في الاتجاه المعاكس الذي ذهب اليه مولود حمروش و أكد من خلاله أن كل حل جزئي أو قطاعي لا يندرج في مسار شامل وفي خطة متكاملة لن يكون ناجعا.أخطر من هذا فإن أي حل من هذا النوع يتسبب في اختلالات إضافية ويعمق من عجز الدولة ويزيد في خيبة الأمل والاستلاب.

مصطفى بوشاشي من خلال موقع يورونيوز أجاب عن سؤال : هل مشروع تعديل الدستور سيكون حلا للأزمة السياسية التي تعيشها الجزائر؟ قائلا :" ليس هذا هو الدستور الذي حلم به الشعب الجزائري عندما خرج للتظاهر يوم الـ 22 فبراير-شباط 2019.أعتقد أن الدستور أو مشروع مسودة الدستور المقدمة للبرلمان الجزائري ليست حلا للأزمة الجزائرية، بل هو هروب إلى الأمام. من ناحية الشكل، أعتقد بأن طريقة وضع دستور وتمريره على برلمان غير شرعي ليست طريقة ديمقراطية في وضع الدساتير. كنا نتمنى أن يقوم الرئيس بانتخابات لوضع هيئة منتخبة لوضع الدستور للجزائريين والجزائريات، فتكون هذه الوثيقة نابعة عن إرادة الشعب الجزائري ثانيا من ناحية المضمون، عند اطلاعي على مسودة الدستور المقدم للبرلمان منذ يومين، لاحظت بأنها لا تؤسس لجزائر جديدة، لا تؤسس لديمقراطية حقيقية، وإنما تعطي صلاحيات لرئيس الدولة، فيصبح إمبراطورا وليس رئيسا، وبالتالي فهذا الدستور وضع لفائدة نظام، وضع لفائدة الرئيس وأعتقد بأن هذا الدستور وهذه الوثيقة لن تؤدي إلى أي نتائج طيبة أو إيجابية، بالعكس أعتقد بأنها ستزيد في الأزمة السياسية التي تعيشها الجزائر. الجزائريون والجزائريات يُريدون الذهاب إلى جزائر جديدة"

في الجهة المقابلة الوزير الأول عبد العزيز جراد يشير الى ان التعديل يؤسس لدولة تعمل على خدمة المواطن واسترجاع ثقته، وتتميز بحياة سياسية تحكمها مبادئ الشفافية والنزاهة والمساءلة والكفاءة، وتفصل بين المال والسياسة، وتحارب الفساد .»

أما رئيس البرلمان سليمان شنين فقد رأى أن التعديلات «متجانسة مع هوية المجتمع الجزائري ومبادئ أول نوفمبر ، مع إعطاء المواطن حقه في الرقابة بحكم ان الدولة من خلال مشروع تعديل الدستور تشجع الجمعيات ذات النفع العام » وأن لا تحل الجمعيات إلا بمقتضى قرار قضائي.»ومن جهة أخرى، وبهدف تفعيل دور المجتمع المدني، أسس مشروع تعديل الدستور مرصدا وطنيا للمجتمع المدني، بصفته هيئة استشارية لدى رئيس الجمهورية يقدم آراء وتوصيات متعلقة بانشغالات المجتمع المدني ويساهم في ترقية القيم الوطنية والممارسة الديمقراطية .

لكن ما يثير القلق حقا هو لامبالاة الشارع الجزائري بهذا المشروع وهذا ما رصدته الصحفية فاطمة عاصم من خلال مقالها تعديل الدستور في الجزائر: حتمية وطنية ام املاءات دولية؟ فكتبت قائلة :" في ظل هذا التجاذب بين الموالين والمعارضين،نجد بأن الشارع الجزائري شبه مغيب خاصة مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها عديد العائلات الجزائرية، بسبب فقدان الكثير من أرباب العائلات لوظائفهم " من هذا المنطلق الأفافاس رفض المشاركة في الاستفتاء، أما حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية فقد أعلن مبكرا أنه غير معني__بالنقاش حول مسودة الدستور. ومع ذلك الدكتور عبد الكريم سويرة يعتقد ان الدستور هو اللبنة الأساسية لبناء الجمهورية الجديدة التي نادى بها الشباب والشعب الجزائري في الحراك المبارك والتي نطمح إليها جميعا من خلال دستور فيه منسوب كبير من التوافق تبعا للنقاش الثري والاقتراحات التي أدخلت على المسودة الأولية .

وكتخريج عام يمكن القول ان التعديلات الدستورية في شكلها ومضمونها قد لا ترتقي الى ما كان يحلم به الشعب الجزائري الذي كان يردد شعار (الشعب يريد)، وقد يكون عذر السلطة السياسية القائمة ان الكمال الدستوري يستحيل الوصول اليه وانه "ليس في الإمكان أبدع وأحسن  مما كان" لكن عليه ان تصغي الى الاخر المخالف لها ،لان الاصغاء حكمة، وعلى المعارضة على اختلاف مسمياتها ان تتحدث بصوت مسموع وان تنزل الى الواقع وتتقاطع مع آمال وآلام هذا الشعب، الذي هو في الأصل المرجع في كل تشريع وصاحب السيادة .

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة