مصطفى حفيظ

يطرح قرار حلّ حزب العمال الاشتراكي الجزائري المُعارض من قِبل وزارة الداخلية في الجزائر مسألة مستقبل المعارضة الجزائرية من جهة، ومصير أحزاب اليسار بصفة خاصة من جهة أخرى، فمنذ صدور القرار وحتى قبله، تعيش المعارضة تقهقرا وتراجعا في وتيرة النشاط الذي كانت عليه قبل "الحراك الشعبي"، ولا يعرف ما إذا كانت تهادن السلطة وتنتظر انفتاحا من جانب هذه الأخيرة خاصة بعد اطلاقها لمبادرة "لم الشمل"، أم تتخوف من عدم وضوح الرؤية إزاء رؤية السلطة لكيف ينبغي أن تكون المعارضة، خاصة وأن مصير بعض "الأحزاب اليسارية" أصبح على المحك؟ فهل سيحدث انفراج سياسي بعد وضوح معالم "مبادرة لم الشمل"؟

أولا، يجب الإشارة إلى أنّ المعارضة السياسية في الجزائر في شكلها الحالي اليوم لا تشبه تلك التي كانت تنشط في السنوات الأخيرة قبل الحراك. فخطابها وقتها كان شديد اللهجة، أو لنقل إنّه كان شرسا وكانت تقوم بمناورات سياسية وتطلق المبادرات تلو الأخرى من أجل التوصل إلى حوار سياسي مثمر مع السلطة بالرغم من الفشل في احتواء الشارع أو توجيهه نحو خطابها المعارض. شهدنا تحالفات اليسار الراديكالي العلماني مع التيار الإسلامي الأصولي الاخواني وحتى التيار الوطني، اجتمعت أحزاب مختلفة في طريقة تفكيرها ومبادئها السياسية والأيديولوجية في تكتل سياسي معارض باسم "هيئة التشاور والمتابعة"، انضم إليها مثلا عن اليسار حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية جنبا إلى جنب مع الحزب الإسلامي عن التيار الاخواني "حركة مجتمع السلم"، أو عندما تكتلت المعارضة بكامل أطيافها لمجابهة ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة في 2014 تحت مسمى "تنسيقية الانتقال الديموقراطي"، لكن برغم ذلك لم يستطع هذا التكتل أن يجابه السلطة وقتها واستمر حكم بوتفليقة إلى غاية اندلاع ما يسمى "الحراك الشعبي" في بداية 2019، والذي أسفر بعد عدة احتجاجات شعبية عن سقوط "حكم العصابة" مثلما وصفه نشطاء "الحراك". وقتها ركبت أحزاب المعارضة بكل أطيافها تلك الموجة وحاولت احتواء الشعب لتكون البديل السياسي عن نظام حكم بوتفليقة، لكنها فشلت في مهمة التموقع والاستقطاب وسط موجة شعبية كانت تبدو قوية ومؤثرة لكنها لم تدم بسبب غياب قيادة تؤطرها.

كانت أحزاب اليسار في تلك الفترة أكثر التيارات السياسية التي تبنت مطالب الحراك ولقيت نوعا من القبول وسط النشطاء، منها الحركة الديموقراطية والاجتماعية (أمدياس)، والتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية (أرسيدي) وحزب العمال وجبهة القوى الاشتراكية، وحركات سياسية ولت من رحم الحراك وحاولت التموقع داخله لكن سرعان ما اختفت أو منعت من النشاط، وحاول اليسار التكتل فيما بينها ضمن ما عُرف بـ "تكتل البديل الديموقراطي" الذي ضمّ كل من الحزب السالف الذكر وهو حزب العمال الاشتراكي الذي تمّ حلّه بقرار وزارة الداخلية، وحزب العمال رفقة الأرسيدي والامدياس"، وربما كانت أول مرة يجتمع فيها اليسار على موقف، لكن حتى هذا التكتل الذي كان وليد ظروف مؤقتة، لم يصدم في وجه السلطة التي استطاعت كبح جماحه وتقليص طموحاته بتكوين جبهة معارضة تتبنى مطالب الحراك.

تكون السلطة قد رسمت الخطوط الحمراء أمام المعارضة بعد قرار حلّ حزب العمال الاشتراكي بحكم من القضاء الاستعجالي، ثم تشميع مقراته ومنعه من أي نشاط سياسي، ولا تهم مبررات الداخلية التي دعتها إلى رفع دعوى قضائية ضد هذا الحزب، لأنّها في ظاهرها مقنعة بحجة انخراطه في الحراك ورفض المسار الانتخابي بعد سقوط منظومة حكم "العصابة"، ومخالفته لقانون الانتخابات، وسبق للداخلية أن أصدرت قرارات مماثلة في حق أحزاب معارضة في السنوات الأخيرة كحزبي "الاتحاد من أجل الديمقراطية والحريات"، و"جبهة الجزائريين الديمقراطيين. ويبدو أن الرسالة الحقيقية من وراء حظر الحزب هي رغبة السلطة في تدجين المعارضة ورسم حدودها، أو ربما دعوتها للانخراط في مسار سياسي جديد تفرضه ظروف داخلية وخارجية وإقليمية، لكن اليسار المعارض رفض بشدّة طريقة تعاطي السلطة معه، إذّ اعتبرت بعض أحزاب اليسار كحزب العمال الذي تقوده مرشحة الرئاسة السابقة لوزيرة حنون، بأن القرار يعدّ "سابقة خطيرة واعتداء صارخا على التعددية الحزبية والحريات الديمقراطية في الجزائر"، لقد كان قرارا سياسي حسب الحزب، ويهدد هذا الاجراء مستقبل الحريات الديموقراطية والمكاسب التي انتزعتها الأحزاب بفضل التعددية السياسية منذ انتفاضة أكتوبر 1988.

ما تخشاه أحزاب اليسار هو مزيد من التضييق على نشاطها، أو هكذا يبدو الأمر من خلال التوجس الواضح لقيادات الكثير من التشكيلات السياسية في هذا التيار، لأنّ الاجراء الصادر في حق حزب معارض يعني أنّ أي حزب آخر في نفس التيار قد تطاله يد العدالة في حال اقتضى الأمر، ما يعني أن الداخلية وكأنها ترسل رسائل تحذيرية لمن يسيرون على نفس النهج المعارض، فمؤخرا، عقب اعلان السلطة لمبادرة "لم الشمل" ومباشرتها للقاءات مع الطبقة السياسية بهدف إرساء حوار سياسي، أبدت بعض القيادات الحزبية في الجزائر مخاوف من هذه المبادرة التي لم تتضح معالمها بعد، ومن المستفيد منها، وأهدافها وخطوطها الكبرى، خاصة مع بقاء بعض النشطاء السياسيين المعارضين رهن الاعتقال، كما تساءل نشطاء سياسيون عن أسباب استمرار السلطة في اعتقال سجناء الرأي على خلفية "الحراك"، حتى أن بعض قادة أحزاب اليسار أبرزهم فتحي غراس، رئيس حزب أمدياس، كان قد اعتقل ومكث في السجن لأشهر بسبب تصريحات وصفت بأنها "مسيئة لرموز الدولة" وتمس بالوحدة الوطنية، وتعرض حزبه للتهديد بعلق مقراته ومنعه من النشاط، ونفس الشيء واجهه الارسيدي الذي اتهمته الداخلية بمخالفة قانون الأحزاب بعد ووضع مقره المركزي تحت تصرف تنظيمات غير مرخصة لعقد اجتماعاتها على خلفية "الحراك"، ومعروف على الارسيدي معارضته المستميتة للسلطة وانتهاجه خطابا يساريا راديكاليا، ومؤخرا، أبدى الحزب حسب تصريح لرئيسه محسن بلعباس مخاوف من أن تكون هذه المبادرة "مجرد خطوة تستهدف مصالحة داخلية بين زمر السلطة"، وكان الأولى حسبه البدء في اطلاق سراح المعتقلين من سجناء الرأي، وأن لم الشمل يبدأ بلم شمل عائلات السجناء بذويهم. وتصريح كهذا مؤكد أنه لن يعجب السلطة، التي ترغب في توسيع مشاوراتها لشرح المبادرة، لكن هل سترى اليسار بنفس العين التي ترى بها المعارضة الإسلامية مثلا، أو المعارضة المعتدلة إن صحّت التسمية، لأن ما يظهر في الساحة السياسية في الوقت الراهن هو تقهقر وتراجع مستوى المعارضة بشكل عام، وانحصرت في شرذمة حزبية لا تملك شعبية ولا تأثيرا في الرأي العام، بدليل أنها لم تستطع استقطاب جماهير الحراك وقتها، ولم تستطع افتكاك السلطة بعد ترشح بعض المعارضين كرئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس (طلائع الحريات)، أو بن قرينة عن حركة البناء الإسلامي (تيار الاخوان)، ويبدو أن مشكلة المعارضة الحالية هو ضعف الخطاب السياسي الذي بقي حبيس الماضي، فلا هي حققت مكاسب سياسية، ولا هي استطاعت أن تتكتل في تيار سياسي قويّ يواجه السلطة، أو ربما تنتظر أن يحدث انفراج سياسي بينها وبين السلطة بعد مبادرة لم الشمل التي يُنتظر أي تتضح معالمها عن قريب.