منذ منتصف العام الحالي بدأت تركيا في عملية سحب تدريجي لمجموعات من أدوات مشروعها الاستعماري، من مقاتلي داعش والنصرة والقاعدة وغيرها، من شمال سوريا، وشرعت في تسريبها إلى ميادين القتال في طرابلس لدعم مليشيات الوفاق في مواجهتها القوات المسلحة العربية الليبية. ، وقد أحيط هذا الأمر بهالة من سرية، باديء الأمر، إلا إن تسارع وتيرته وازديادها، كماً وكيفاً، وبمعدلات غير مسبوقة أدى إلى تسربت أخباره إلى الرأي العام ووسائل الإعلام المختلفة. فقد تحدث عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تصريحات أدلى بها أثناء زيارته لروما هي يوليو الماضي، وهو لا يلقي القول جزافاً، لكن بناء على ما رصدته أجهزته الاستخبارية في نقطتي الانطلاق والوصول. كما أكده غسان سلامة، المبعوث الأممي إلى ليبيا، في أحاطته إلى مجلس الأمن. ونبه إليه الرئيس السوري بشار الأسد، ومندوبه في مجلس الأمن، الجعفري، عديد المرات. كما أن لدى القيادة العامة من المعلومات ما يؤكد هذه التحركات، وفقاً لما صرح به الناطق الرسمي باسمها، اللواء أحمد المسماري، مراراً وتكراراً. ولهذا فالموضوع في الأساس معروف ومرصود من الناحية المعلوماتية، وهو ليس مفاجئاً ولا جديداً بالمطلق. إذن ما الذي تغير ووضعه في أولويات دائرة الاهتمام الإعلامي والسياسي هذه الأيام؟ 

بادئ الأمر، لا شك في أن التطورات الخطيرة الأخيرة التي شهدها الفضاء التركي الليبي، والتي توجت بتوقيع اتفاقيتين للتعاون الاقتصادي، والتحالف الأمني والعسكري بين الحكومة التركية وحكومة الفرقاطة، قد أضافت عوامل وأسباباً جديدة للقلق والتوتر محلياً وإقليمياً. وساهمت في تسريع الخطوات التركية للتدخل المباشر في ليبيا. فمن المنظور المحلي، اعتبر أغلب الليبيين أن الاتفاقيتين تمثلان مشروعاً استعمارياً جديداً، يتمثل في تسليم ليبيا للأجنبي، والتفريط في سيادتها وأمنها، وتوظيفها لخدمة المخطط التركي في مواجهة دول الإقليم، خاصة اليونان وقبرص، والشقيقة مصر. علاوة على كونهما بؤديان عملياً إلى رهن مقدرات البلد وإمكانياتها ومجالها الاقتصادي والحيوي إلى دولة تركيا، رغماً عن إرادة شعبها. هذا ما ولد لدى أغلب الليبيين قناعة راسخة مفادها أن الإسلام السياسي، ولأجل أن يحتفظ بكراسي السلطة ويواصل التحكم في رقاب الشعب، لا يهمه، في قليل أو كثير، أن يضحي بالبلاد وبمصالح شعبها، طالما أن الشعب رفض مشروعه الإرهابي، ولم يتماهى مع أجنداته السياسية. وبالتالي فإن أعداداً متزايدة من الشباب الليبي يعلنون انضمامهم لصفوف الجيش في كل يوم، ما ساهم في رفع روحه المعنوية وتحقيق انتصارات باهرة في الساعات القليلة الماضية.

أما من المنظور الإقليمي، فإن الاتفاقيتين قوبلتا برفض واستنكار شديدين من قبل كثير من الدول، وفي مقدمتها اليونان وقبرص ومصر. واعتبرته الدولتان الأوليان اعتداءً صارخاً على سيادتهما وحقوقهما البحرية، ومناطقهما الاقتصادية. يأتي في نفس سياق التحركات التركية المتهورة وغير القانونية التي قامت بها تركيا في الآونة الأخيرة للتنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط، وتحديداً في إقليم قبرص المتنازع عليه. وهذا يجعل من ليبيا ظهيراً لتركيا في هذا النزاع الذي لا ناقة لليبيين فيه ولا جمل. وطرفاً في حرب دولية قد تندلع في أية لحظة تعرض بلادهم ومصالحهم وأمنهم للخطر بدون أي مسوغ منطقي أو أخلاقي. هذا طبعاً لا علاقة له بالمصلحة الوطنية الليبية على الإطلاق، ولا يخدم إلا المصلحة التركية ومشروعها الإسلاموي. فليبيا هنا ليست إلا إداة من الأدوت التركية، والأداة تؤدي عملاً لغيرها، لكنه في الغالب يكون على حسابها. أما بالنسبة لمصر، فالأمر يكتسي أبعاداً أخرى لا تقل أهمية. فبالإضافة إلى قلقها مما تسببه الاتفاقيتان من تهديد للأمن والسلم والاستقرار والتعاون الدولي في شرقي المتوسط. فهي تشكل تهديداً لكيان الدولة الليبية وشعبها، وإهداراً لثرواتها وإمكانياتها، بل وتتعدى هذا، إلى الإضرار بالمصالح المصرية والعربية ومصالح دول حوض المتوسط كلها. لكن الأمر الأكثر حساسية بالنسبة لمصر هو البعد الأمني حيث إنها تتوجس خيفة من نقل المقاتلين المرتزقة إلى ليبيا والسيطرة عليها من قبل مليشيات الإسلام السياسي وتحويلها بالتالي إلى قاعدة انطلاق لتهديد الأمن المصري. وبالتالي تصبح ليبيا خنجراً في ظهر مصر، بعد أن كانت لأربعين سنة عمقاً إستراتيجياً لها. هذا الموضوع بالنسبة لمصر لا مساومة فيه. وهذا يعني لمصر أن المعركة التي تدور رحاها على تخوم طرابلس هي ليست مجرد معركة ليبية، بل هي معركة مصرية بامتياز كذلك. وهذا يعطي لمصر المبرر الأخلاقي والقانوني للوقوف خلف الجيش والشعب الليبي ودعم صمودهما.                

إن توقيع الاتفاقيتين قد جعل أردوغان يرفع نبرة التحدي ويهدد بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا بدعوى الدفاع عن الشرعية وحماية الليبيين من أصل تركي. وترجمة هذا التهديد شروعه الفعلي في نقل أعداد كبيرة من المقاتلين المرتزقة والإرهابيين جواً إلى مطاري معيتيقة ومصراته. بعد الأعداد التي جاءت بحراً قبل ذلك بعدة أسابيع. وقد قدرت بعض المصادر أعداد المقاتلين الأجانب الذين وصلوا فعلاً إلى طرابلس بحوالي ألف عنصر. ويرجع سبب تسريع تنفيذ هذا البرنامج، إلى تيقن قادة الإخوان، في المستويين المحلي والإقليمي، بأن سقوط طرابلس قد أصبح قاب قوسين أو أدنى، وأن انهيار خطوط مليشياتهم في الميدان قد يحصل في أية لحظة، بفعل التقدمات الهامة التي أحرزتها القوات المسلحة العربية الليبية في كل محاور القتال   في طرابلس. ناهيك عن تأكدهم من أن أغلبية الشعب الليبي تقف وراء مؤسسة الجيش بكل ما أوتيت من قوة. مما وضع حداً لآمالهم في تأليب القاعدة الجماهيرية ضد ذراعها العسكري المقاتل. هذا الأمر أشعر قادة عصابات الإسلام السياسي في ليبيا بالرعب والخطر المحدق، وأفقدهم صوابهم الذي تجلى في الخطاب الإعلامي الشعبوي الذي يسوقه أهم الناطقين باسمهم. كما أرعب من ورائهم الدول الراعية والمشغلة لهم، وفي مقدمتها تركيا. لأن سقوط طرابلس في يد الجيش الليبي يعني، من بين ما يعنيه، نهاية المشروع الإخواني-الأردوغاني، ربما إلى الأبد. وانكماش الدور والنفوذ التركيين في الإقليم. وتوقف ضخ الأموال الليبية الصعبة في شرايين الاقتصاد التركي المترهل المثقل بالديون، الذي لا يختلف حاله اليوم، عما كان عليه في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. ويعني كذلك نهاية تدفق البضائع التركية الفاسدة إلى الأسواق الليبية، مما يفاقم المصاعب الاقتصادية التي تواجه تركيا  من مثل زيادة معدلات البطالة والتضخم والركود والكساد. كما أن سقوط طرابلس، أو بالأحرى، عودتها لأهلها، تعني نهاية التفريط في الاستقلال والسيادة الليبية، وبداية بناء ليبيا وعودتها لتبوأ مكانتها العربية والعالمية. وحتى لا يحدث مثل هذا التحول الدراماتيكي المدمر للمصالح التركية الاستعمارية، كان لابد من إلقاء أردوغان لكل أوراقه وراء المليشيات المؤدلجة في ليبيا، فمعركته في طرابلس هي معركة حياة أو موت.

ولكن كيف يمكن لأردوغان أن يسحب المقاتلين من إدلب، وهو يطلق عملية عسكرية في المنطقة تستهدف إقامة منطقة أمنية عازلة في الشمال السوري؟ والشمال السوري، كما هو معروف، أكثر أهمية لأمن تركيا من ليبيا بحكم الدوار الجغزافي. هذا السؤال مشروع ومنطقي. لكن بموازين الربح والخسارة، صحيح أن الشمال السوري مهم للأمن والنفوذ التركي في سوريا. ولكن يمكن لتركيا إدارة الأزمة في المنطقة من خلال آليات مختلفة. أولها من خلال تفاهمات وتنسيق تركي إيراني روسي. فالمصالح الإيرانية والتركية في سوريا والعراق تدار من خلال ترتيبات ثنائية سلمية، لأن الدولتين جربتا استخدام الأقليات الكردية في كل منهما، وفي العراق بينهما، ضد بعضهما البعض في الماضي. ولكن توصلا منذ فترة، إلى إعمال مقاربة وظيفية لإدارة علاقاتهما البينية؛ تعمق تعاونهما السياسي والاقتصادي والأمني، وتضمن تضييق الخناق على التطلعات الكردية القومية فيهما وبينهما في العراق. كما أن بعض المحللين لا يستبعدون إبرام صفقة من نوع ما بين روسيا وتركيا تسحب بموجبها تركيا المقاتلين المرتزقة من الشمال السوري، في مقابل عدم مقاومة روسيا للمشروع التركي في ليبيا. ويرى البعض أن هذا يحدث بدون علم أو موافقة الحكومة السورية، ولذلك فإن تصريحات الرئيس السوري ومندوب سوريا في مجلس الأمن ربما كانت بمثابة تبرئة ذمة وتنبيه الليبيين إلى الداهم الذي يحاك لهم. وفي كل الأحوال، فإن تركيا تخشى فعلاً من خسارة موطىء قدمها وتلاشي وضياع نفوذها ومصالحها الكبيرة التي حققتها في ليبيا بعد 2011. فالمتسيدون للمشهد في طرابلس قدموا وعود لأردوغان بأن نصيب الأسد في مشاريع إعادة إعمار ليبيا سيتم إسناده للشركات والمقاولين الأتراك. كما أن تركيا ستكون الشريك الأول، أو المهيمن على قطاع استكشاف النفط وإنتاجه وتصنيعه. بالإضافة إلى القبول بمنح تركيا قواعد عسكرية برية وبحرية وجوية في ليبيا. ولذلك فغن تركيا تستطيع إعادة توطين الملايينمن مواطنيها في ليبيا، وتتريك ليبيا كما فعلت خلال القرون التي استعمرت فيها ليبيا. أردوغان يعتمد على آليتين لتنفيذ هذا السيناريو الطموح بالنسبة إليه؛ أولهما الطابور الخامس من الخونة والعملاء من الليبيين الذين يعلنون إنتماءهم لأصول تركية وفي مقدمتهم الصلابي والسراج وباشا آعا ومن يدور في فلكهم. وثانيهما، حركات الإسلام السياسي وفي مقدمتها حركة الإخوان المسلمين. والآلية الوقتية والآنية هي استقدام أفواج من الإرهابيين والمرتزقة الأجانب الذين كانوا رأس الحربة في برنامج تدمير الدولة السورية ويتم اليوم تحويلهم إلى طرابلس للقيام بنفس الدور. ألم يهدد أردوغان بأن ليبيا ستكون سوريا ثانية؟

لكن ما هي فرص نجاح المشروع الأردوغاني التوسعي الإمبريالي؟ الواقع أن تركيا كانت تتبنى سياسة خارجية برغماتية قبل وصول أردوغان إلى السلطة. وحتى في بداية عهد حزب العدالة والتنمية كان الشعر المرفوغ "صفر مشاكل"، مما سمح للاقتصاد التركي بتحقيق مكاسب لا بأس بها. ولكن اعتبارا من العام 2011، تم تغيير مسار السياسة الخارجية إلى سياسة أيديولوجية إسلاموية. هذه النقلة جعلت بعض خبراء السياسة والعلاقات الدولية يحذرون من مغبة الانجرار إلى هكذا سياسة، لأنها ستكون على حساب ما حققه الاقتصاد من قفزات في العقد الأول من الألفية الجديدة. ناهيك عن تأثيراتها السلبية على علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي العربي والأوروبي والآسيوي. لكن أردوغان لم يتعظ من دروس التاريخ القديم والحديث، واندفع في هذه السياسة الخطرة التي حققت بعض المكاسب المعنوية والمادية الآنية؛ فأظهرت أردوغان كبطل إسلامي لدى قطاع لا بأس به من المخدوعين والمغرر بهم في المنطقة، خاصة قواعد الإسلام السياسي التي ما انفكت تطبل للسلطان الجديد الذي سيعيد مجد الإسلام. وداخل تركيا، ازدادت شعبيته بتأثير الدعاية وقلب الحقائق، فتحول إلى دكتاتور وخير دليل ما قام به بعد الانقلاب الفاشل للجيش. ومادياً تدفقت مءات المليارات من الأموال على تركيا من الدول الإقليميين الداعمة للحركات والمنظمات الإرهابية في سوريا، وقد آلت أعلب هذه الأموال الطائلة إلى السوق التركي الذي تكفل بتوفير احتياجات الثوار. كما تدفقت الأموال التي سرقها الإسلامويون من خزائن الشعوب في دول الربيع. فعلى سبيل المثال، من ليبيا وحدها، دخلت إلى تركيا أموال أفراد خواص بلغت ثلاثين ألف مليون دولار وفقاً لما أدلى به وزير المالية التركي في سنة 2017. ود على ذلك العوائد التي كانت تحصل عليها تركيا لسنوات من خلال سرقة وبيع النفط السوري والعراقي. وما جنته من أرباح من خلال.سرقة المعامل والمصانع في المدن السورية، وخاصة في حلب. وما كانت تحصل عليه من مواد زراعية وحيوانية من المنتجين السوريين بأسعار بخسة. ورواج صادراتها وتجارتها في السوق السوري جعل صناعتها تزدهر وتعمل بأقصر قدرتها. ومن أهم القيم المضافة للاقتصاد التركي ما قدمته القوة السورية الفنية المنتجة التي اضطرت للهجرة إلى تركيا بسبب الظروف الأمنية في بلادها.

إن الكثير من هذه المزايا قد انتهت وتلاشت. فالأموال التي كانت تتدفق من الممولين الإقليميين الكبار قد تضاءلت لأدنى حد بسبب انسحاب بعض الممولين، وتقاعس البعض الآخر عن القيام بما كان يقوم به في السنوات الأولى. كما أن سيطرة الحكومة السورية على أكثر من 75 في المائة من إقليمها، وهزيمة الكثير من الحركات المسلحة حرمت تركيا من كثير من تلك المزايا التي كانت تتمتع بها في السنوات الأولى للأزمة. وبهذا عادت فترة الاودهار الاقتصادي التي رافقت الجرب وفقاً للنظرية الكينزية إلى الانكماش والركود من جديد. وهذا السبب، من بين أهم الأسبااب التي تجعل أردوغان يفقد صوابه حين يرى أن ليبيا التي قد تعوض له الكثير من الخسائر في طريقها إلى الافلات من قبضته هي الأخرى. ولذلك فقد جاءت خطوته باتجاه ترحيل المقاتلين باتجاه طرابلس للحيلولة دون سقوط أدواته، خطوة عدائية متسرعة وغير محسوبة العواقب، وأنها لن تؤتي ثمارها ولن تقدم شيئاً مضافاً لتركيا، اللهم إلا المساهمة في إيذاء الشعب الليبي أكثر فأكثر. 

أما التدخل العسكري التركي المباشر في ليبيا، فهو أمر لا يتوقع له النجاح لأسباب تتعلق بالقدرات التركية من جهة، والأوضاع الليبية من جهة أخرى. فمن الناحية الأولى، فإن الجيش التركي لن يكون قادراً على خوض معركة كبيرة في ليبيا انطلاقا من الأراضي التركية، حتى لو استطاع الأتراك إقامة رأس جسر إستراتيجي على أية بقعة من اليابسة الليبية. فتركيا دولة إقليمية كبيرة، لكن تصنيها من ناجية القوة العسكرية  (تحت المتوسط). كما أنها دولة غير بحرية، بمعنى أن قدراتها البحرية لا تسمج لها بخوض غمار حرب بعيداً عن إقليمها بالاعتماد على قدرات أسطولها اللوجستية والقتالية، كما هي الحال عند القوى الخارقة مثل الأمريكان أو الصينيين أو الروس. أو غيرها من القوى الكبيرة مثل بريطانيا أو فرنسا. وهذا ينطبق على القدرات الجوية، فالهجوم الجوي على ليبيا انطلاقاً من الأراضي التركية والعودة لن يكونممكناً إلا باللجوؤ إلى الرضاع الجوي وتزويد المقاتلات بالوقود ربما أكثر من مرة. وهذا أمر لو توفر مرة أو مرتين، فلن يكون ممكناً في كل مرة. ناهيك عن أن الأجواء لن تكون مفتوحة من قبل مصر أو اليونان اللتان لن تسمحا للطيران التركي باستخدام مجاليهما الجويين، كما لن يسمجا لأسطولها بالإبحار في مياههما الإقليمية. كل هذه المصاعب اللوجستية والعملياتية، بالإضافة إلى الكلفة السياسية والفاتورة الاقتصادية الباهظة للجرب، لن تجعل أردوغان قادراً على تنفيذ تهديداته التي أطلقها للاستجابة لطلب حكومة السراج فيما لو طلبت تدخله. هذا لا يعني بالطبع أن عدم قدرته كلي ونهائي، فهو لا شك قادر على تقديم الدعم العسكري بالمعدات والأسلحة والذخائر، وهو قادر كذلك على الدعم بالخبراء والمقاتلين والمرتزقة والمعلومات الاستخبارية والدعم السياسي والإعلامي وغيره. أما أكثر من هذا بلا يتوقع منها. 

أمامن الناحية الليبية، فإن ليبيا اليوم ليست هي ليبيا التي خبرها الأتراك في ومن العثمانيين. كما أنها ليست ليبيا الأمس القريب عام 2011. ففي الزمان الغابر، وعلى الرغم من أن الشعب الليبي كان يصارع الفقر والجوع والمرض والتهميش والقتل والتهجير، ومع ذلك لم تهدأ الثورة في يوم إلا واندلعت في اليوم الذي يليه طيلة القرون الطويلة التي خضعت فيها ليبيا للأستانة. أما إبان عام النكبة فقد كانت ليبيا هدفاً لحرب كونية، رأس الحربة فيها، الهجوم العسكري الذي نفذته ثمان وأربعون دولة. بالإضافة إلى الحصار السياسي والاقتصادي والمالي الذي ضربه العالم كلة. زد على ذلك الخناجر التي سددتها الدول المجاورة إلى خاصرة ليبيا وقلبها، عندما فتحت حدودها لإدخال الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا بتأثير الرشى القطرية والهراوات الفرنسية وغيرها. والدور المشين والمخجل الذي لعبته جامعة الأسر العربية الحاكمة باسباغ الشرعية على العدوان وتشجيعه. وعلى الرغم من أكثر من أربعين ألف طلعة جوية فوق ليبيا، منها أكثر من 23 ألف غارة قتالية، ظل الليبيون صامدين، يقاتلون بكل بسالة، وبدون غطاء جوي مدة ثمانية أشهر بأكملها. وكاد العدوان أن يفشل لولا غدر أو تخاذل من لم يكن يتوقع منه ذلك. أما اليوم، فالأمر مختلف تماماً. فتركيا تقريباً معزولة وموقفها مستنكر على نطاق واسع. أغلب دول الإقليم ترفض المشاركة في أي عمل عدائي ضد ليبيا، وبعضها حليف إستراتيجي للقوات المسلحة العربية الليبية مثل مصر والإمارات والسعودية وغيرها. كما أن أغلب دول العالم تتفهم دور الجيش وتدعم معركته على الإرهاب والمليشيات. كما أن الجيش الليبي نهض من تحت الرماد كطائر الفينيق وقويت أجنحته فبدأ يستنسر في السماء ويخوض عباب البحر ويطوي الأرض طياً. واكتسب مهارات وقدرات قتالية لا يستهان بها من خلال الحرب التي خاضها في بنغازي ودرنة وغيرهما. وهو اليوم يتمتع بدعم شعبي وجماهيري واسع النطاق. 

إذن آفاق قيام تركيا بحرب شاملة على ليبيا بالمعنى التقليدي، انطلاقاً من إقليمها، علاوة على كونها غير ممكنة عملياتياً، فهي حتى وإن أقدم عليها أردوغان بشكل أو آخر، ستكون عملاً يائساً وجنونياً، ولن تحقق أي هدف سياسي إستراتيجي لتركيا، وسيكون مصيرها الفشل، بل ربما سببت في انهيار الدولة التركية، إذا ما طال أمدها أو تحولت إلى حرب إقليمية. ولهذا فالخيار المتاح الوحيد والأقل كلفة أمام أردوغان هو تصدير الإرهاب إلى ليبيا بتصدير المقاتلين والمرتزقة الأجانب الأجانب، ودعمهم بالخبراء والضباط الأتراك والأسلحة والطائرات المسيرة والمعلومات الاستخبارية وما في حكمها. وعلى أية حال، فإن الشعوب لا تموت وستظل تقاتل دفاعاً عن وجودها ومستقبل أجيالها. والشعب الليبي حتى وإن انقسم على نفسه بفعل الدور الخبيث الذي يؤديه الخونة والعملاء منذ 2011، فهو قادر على لملمة شتاته و تجاوز جراحه والوقوف في وجه الغواة.

أن أردوغان، وهو يتحدث عن حقوق أجداده التاريخية في ليبيا، إنما يحيل الأجيال الليبية الحاضرة التي نسيت وتسامحت مع المظالم التركية، إلى تاريخ حقبة حالكة السواد، ويوقظ فيهم الذكريات الأليمة والجراح الغائرة ومشاعر الكراهية التي خلفها الاستعمار التركي البغيض، الذي لم يعرف الليبيون منه إلا الجلد بالسياط والقتل والتشريد والتهجير وسلب الأرزاق واستباحة الحرمات. يبراً على خطى غومة المحمودي ويحي السويدي وعبدالجليل سيف النصر وجبر التاورغي غيرهم من الثوار الذين أدموا أنف تركيا وعملائها في سالف الأزمان..وقد يكون هذا حافزا إضافياً لوحدة الليبيين وخوضهم معركة تاريخية للثأر من الأتراك. لأنه، وكما قال الشيخ الطاهر الزاوي، في كتابه (ولاة طرابلس)، نقلاً عن ابن غلبون في كتابه (التذكار)، فإن لليبيين "دين كبير في رقبة الأتراك"، ولربما حان الآن وقت استيفائه. فمن يدري؟ 

الآراء المشنورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة