عندما كانت الطوابير الطويلة التي تصطف فيها المجاميع البشرية أمام مصارف "بنوك " العاصمة طرابلس طلبا لبضعة وريقات من النقد المحلي بالكاد تكفي لتغطية إحتياجات المعيشة الأساسية في ظل تغول غير مسبوق للإسعار بسبب إنهيار القوة الشرائية والتضخم ..أقول عندما كانت هذه الطوابير تعرقل حركة مرور السيارات بسبب الاكتظاظ الذي فاض عن مساحات الارصفة الضيقة نحو الإسفلت المتوهج بحرارة الشمس صيفا ، والغارق في وحل مياه الأمطار في الشتاء ..كان ثمة هناك - في ذات الآن - طوابير مغايرة ، أكثر تنظيما وأقل إزدحاما تفوح من حواشيها شذى العطور الباريسية الراقية ولاتكتنفها غير ضحكات الأطفال السعداء و همسات الرضى والحبور التي يتبادلها الواقفون من الجنسين أمام مطعم السفير ورويال ومورينا و اللبناني والتركي والطلياني حيث لايكون الدفع إلا "بالكاش داون"   ..
في مشهدية أخرى لاتقل بلاغة في تصوير عمق المفارقة .. مئات الأجساد المسجاة على أسرة المرض  في الأقسام الإيوائية بمستشفى شارع الزاوية الحكومي / المجاني ، تتوجع وتئن طلبا لحقنة مسكنة أو إهتمام طبيب إمتياز أو حتى إبتسامة مؤاساة وتعاطف من ممرضة بائسة لاتجد العزاء لنفسها كي تمنحه للآخرين ..بينما على الضفة المقابلة للمستشفى  المتهالك من طول الإهمال ينتصب صرح طبي فندقي بسبعة نجوم تبلغ تكاليف إقامة الليلة الواحدة فيه مايوازي رواتب ثلاثة موظفين  في قطاع الإعلام على سبيل المثال ، ويقدم للزبون / المريض خدمات ملكية لاتستطيع الإستمتاع بها إلا القلة المحظوظة .. 
 أولئك ليبيون وهؤلاء ليبيون ..سواء من يسحقهم الفقر بكعب حذائه الخشن ، أو من يتنعمون في الثراء الهوليودي الخرافي .. لكن لامشترك بينهم غير الجنسية التي باتت تباع لكل شذاذ الآفاق من اركان الأرض الأربعة عن طريق موظفي الحكومة المرتشين .. أكثر من ذلك أن كثيرين ممن ينتمون إلى كلتا الفئتين  يمكن أن يكونوا أبناء قبيلة واحدة بل ويحملون ذات اللقب العائلي فغالب النسيج الاجتماعي الليبي ، نسيج بدائي لاتفاوت فيه ولاطبقات ولا إقطاعية ولا رأسمالية ..إذ لا أحد منا ورث عن جده عزبة ولاقرية ، أو ساهم مع والده ، كما هو حال "هنري فورد" في إنشاء مصنع للجرارات الزراعية أو السيارات الإقتصادية ..وكل الليبيين منذ حلت بهم لعنة النفط بل وحتى قبل ظهور هذه اللعنة هم عيال على الدولة ..سواء كانت دولة احتلال او دولة كمبرادور او دولة وطنية ، ومع ذلك فمنهم الغني فاحش الثراء ومنهم الفقير فقرا مدقعا ..

فمن أين يأتي هذا التفاوت الذي كشر عن أنيابه الصدئة في السنوات العجاف الأخيرة كأنه يشفي غلا وحقدا من عقود كاد يتساوى فيها الغني والفقير على الأقل ظاهريا حتى تلاشت أو أوشكت على التلاشي صور الإستفزاز المألوفة في مجتمعات أخرى ؟   ..وتجنبا لحرج الغوص في الجذور العميقة لهذا الخلل  غير المنطقي وفق طبيعة الإقتصادات الريعية ، حيث أن محاولة من هذا النوع يمكنها أن تجر صاحبها إلى ملامسة مناطق حساسة في الجسد الإجتماعي الليبي تتعلق بتاريخ الصراع المحلي القبلي والجهوي والعائلي على السلطة والثروة والنفوذ والإرتباط بمراكز السلطة  في مرحلة الإستعمار والإستقلال ومرحلة الجمهورية والجماهيرية وصولا إلى فوضى فبراير وتداعياتها الراهنة ..سنكتفي بالقول أن ذلك الخلل نشأ بسبب ظروف تاريخية غير عادلة وغير قانونية بل وغير أخلاقية إستطاعت خلالها قلة من الحذاق والشطار واللصوص إستغلال الظروف العامة للإثراء على حساب الأغلبية الساحقة ..
إن مايشعل الحنين في صدور الليبيين البسطاء اليوم على مختلف مشاربهم وقناعاتهم السياسية لمرحلة ماقبل فبراير ، ليس فقط - بل وليس تحديدا - ماتكتظ به تلك المرحلة من مظاهر ورمزية للسيادة الوطنية  وهيبة وكرامة الدولة وحضورها الإقليمي والعالمي المؤثر ، وهذه حقيقة لاينكرها سوى جاحد جاهل حاقد ..لكنه حنين إلى الإحساس بالأمان المعيشي الذي وفرته الدولة من خلال جملة السياسات والإجراءات الحمائية التي حدت من تغول وطغيان الرأسمالية الطفيلية غير المنتجة التي أفرزتها عقود مهدورة في ظل البترول وما قبل البترول ، وأمنت حصول المواطن على الحد الأدنى من الرعاية الصحية والطبية والتعليم بكل مراحله مجانا بإعتباره حقا مقدسا لا مجال فيه للمتاجرة والتربح ناهيك عن الدعم المباشر للسلع الغذائية والأساسية الأمر الذي جعل من إمكانية العيش الكريم في ليبيا متاحة للجميع ، سواء القريبيين من السلطة والثروة أوالبعيدين في الاطراف والهوامش  .. صحيح أنه لم يكن في طرابلس وبنغازي وسبها برج خليفة أو مطار دبي ..لكن أيضا لم يكن هناك من يضطر إلى المغامرة بحياته وحياة أطفاله وركوب قارب من قوارب الموت طلبا للحياة في أوروبا  أويجبر على الصراع مع القطط السائبة بحثا عما يأكله في حاويات القمامة .. 
سيظل الصراع مستعرا لسنوات قادمة ربما ، بين طلاب السلطة من كل القبائل الإجتماعية والسياسية في ليبيا ..وسيظل المريض المحتضر في مستشفى شارع الزاوية والعجوز المسمرة في طابور المصرف يرددان بحسرة :- إنما أكلنا يوم أكل الثور الأبيض..  أما شركاء الجنسية الذين يتمرغون في النعيم المسروق فلا بياض الثور يعنيهم ولاسواد أيامنا ..

كاتب و صحفي ليبي 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة