المليشيا هي مجموعة مؤطرة من الأفراد الذين يمتشقون السلاح بغرض تحقيق هدف سياسي عندما تعجز كافة الوسائل السلمية عن تحقيق هذا الهدف، وهي بذلك تختلف عن جماعات الجريمة المنظمة، رغم أن الفرق في كثير من الاحيان يختفي عندما تنزلق المليشيا إلى ممارسة النشاط الاجرامي.
 من المعتاد أن تنشأ الميلشيات في أي بلد عند بروز أزمات سياسية حادة ينتفي فيها الحوار المجتمعي وتصبح لغة السلاح هي الوسيلة الوحيدة لمحاولة الوصول إلى حل، وهذا يسري أيضا على حالة تعرض البلد إلى غزو خارجي، حينها يلجأ أفراد المجتمع إلى تنظيم أنفسهم في جماعات مسلحة بهدف المقاومة.

نشأت الميلشيات الليبية عن أزمة سياسية عميقة رفض فيها الحاكم المستبد ترك السلطة، واستعمل السلاح بافراط لكبح جماح الصوت المعارض، وكانت ردة الفعل بالطبيعة عنيفة جدا، حين أنخرط الآلاف من الشباب الليبي في جماعات مسلحة هدفها الصريح والمعلن هو اسقاط النظام بالقوة. ككل معارضة مسلحة طارئة لم يكن الوقت ولا الظروف المتسارعة تسمح للمسلحين الليبيين بتشكيل كيان عسكري واحد منضبط، بل وبحكم التركيب القبلي للشعب الليبي تكونت معظم الجماعات المسلحة على أسس قبلية ومناطقية، وأصبح لكل مدينة أو حتى قرية مجموعتها أو مجموعاتها المسلحة. طبيعة الصراع الليبي وتدخل الأطراف الخارجية ساعدت في تضخيم أعداد الميلشيات وعدم انضباطها وأيضا تشتتها فكريا وعقائديا، وكانت الميلشيات الاسلامية الأكثر تنظيما، والأكثر امكانيات ومن ثم الأكثر قدرة.

عند سقوط النظام أصبحت الميلشيات في موقع المسيطر الحقيقي على الدولة، وكان أن فرضت وجودها على مفاصلها وهياكلها التنفيذية، وأرغمتها على أخذها في الحسبان في كل ما تقوم به هذه الدولة من اجراءات وأعمال، حتى أنها أجبرتها على صرف مرتبات سخية ثابتة ومستمرة لعناصر الميلشيات، واستولت على العديد من المعسكرات والمباني العامة، وعلي كميات كبيرة من العتاد الحربي والآليات.

عندما تأسس المؤتمر الوطني العام إثر إنتخابات 7 يوليو 2012، كأول مجلس نيابي ليبي في نحو نصف قرن، اعتقد الجميع أن ما يحمله من شرعية دستورية كفيل بأن يساعد في وضع قواعد الدولة المدنية الديمقراطية الجديدة. لكن الحقيقة كانت تختلف تماما عن هذا التصور؛ فبعض أعضاء المؤتمر هم في حقيقة الأمر قادة ميلشيات، وعلى رأس هؤلاء صلاح بادي الذي أحرق مطار طرابلس، ومحمد الكيلاني أحد رموز فجر ليبيا. الأسوأ أن أعضاء المؤتمر المنتمين لتيار الاسلام السياسي بمختلف أطيافه كانوا يسعون من خلف الكواليس لاختراق الدولة عبر تنصيب أتباعهم وزراء ووكلاء وسفراء وكبار موظفين، بعيدا عن معايير الشفافية والنزاهة التي تتطلبها الدولة المدنية الديمقراطية. 

ليس هذا وحسب بل أن بعض المليشيات جنحت إلى التطرف وخلقت حكومة ظل غير مرئية بهدف ما تسميه تطبيق الشريعة، وكان ذلك أكثر وضوحا في مدن الشرق، وقد برز منها قادة غاية في التطرف والجنون يعلنون صراحة أنهم ضد الدولة الديمقراطية باعتبارها فكرة كفرية مستوردة على حد قولهم، أشهرهم محمد الزهاوي ووسام بن حميد وجلال المخزوم في ميلشيا أنصار الشريعة، إضافة إلى مجموعات أخرى  بالغت في التطرف وأسست مجموعات دموية عنيفة كفروع لتنظيم القاعدة والدولة الإسلامية المعروف بداعش مارست الذبح وتقطيع الرؤوس.

كل الجهود التي بذلتها حكومتا الكيب وزيدان ثم المؤتمر الوطني العجيب لحل مشكلة المليشيات – كتائب الثوار- ذهبت أدراج الرياح؛ فقد أصدر المؤتمر الوطني القرار 27 لسنة 2013 بحل المجموعات المسلحة، وحاولت حكومة زيدان تطبيق القرار، إلا أنها اصطدمت بعناد قادة المليشيات بما فيهم القادة الأعضاء في المؤتمر الوطني الذي أصدر القرار. ليس هذا فقط،  بل وفي خطوة عكسية طلب ممثلو الاسلام السياسي من السيد زيدان اصدار قرار من حكومته بتشكيل ما أسموه الحرس الوطني الذي كان سيمثل مظلة تشرعن المليشيات في مقابل تهميش الجيش والشرطة، الأمر الذي دفع السيد محمد البرغثي- وزير الدفاع آنذاك- إلى الاستقالة، ثم فطن زيدان نفسه إلى خطورة الخطوة فجمد البث في الموضوع.

كان طيش المجموعات المسلحة يزداد كل يوم؛ فعندما تجمعت في التشكيل المهلل الذي أسمته درع ليبيا، أخضعت المؤتمر الوطني إلى صولات من التهديد المباشر وصل بعضها إلى مستوى الوعيد بتفجير القاعة على من فيها، حتى أنها أجبرت المؤتمر على اصدار القرار الشهير 7، بغزو مدينة ليبية هي بني وليد في سبتمبر 2012. ثم اقترفت جريمة السبت الأسود في بنغازي في 8 يونيو 2013 أمام معسكر الصاعقة التي ذهب ضحييتها 40 مدنيا، ثم ألحقتها بمجزرة غرغور في 15 نوفمبر 2013 التي قضى فيها نحو 50 مواطنا أعزل. 

كانت جرائم المليشيات تزداد عددا وعنفا، ويزداد هؤلاء طمعا واجراما، وكان أن انطلقت سلسلة طويلة من الاغتيالات والتفجيرات المأسوية في مدينتي بنغازي ودرنة حصدت نحو 700  مواطن من ضباط الجيش وأفراد الأمن والمثقفين والصحفيين، ولم تستثن حتى النساء.

ووصلت الجرءة والعنجهية بقادة الميلشيات أنهم في 10 أكتوبر 2013 خطفوا علي زيدان رئيس الوزراء من مقر إقامته ليلا وبملابس النوم. وخطفوا بعد ذلك نوري بوسهمين رئيس المؤتمر الوطني في 25 مارس 2014. وكان هذان الحدثان يمثلان أكبر دليل على أن الدولة كانت مجرد كيان ورقي لا حول له ولا قوة أمام تغول المليشيات.

في جانب آخر استهوت أعمال الخطف وتهريب الوقود والاتجار بالبشر بعض المليشيات في المنطقة الغربية والجنوبية، فوسعت نشاطها حتى أصبح الوقود نادر الوجود في الجنوب الليبي بكامله، وأصبحت مراكب الهجرة غير الشرعية تملأ البحر المتوسط.

كانت حروب المليشيات تشتعل في كل مكان من ليبيا وتحت أي ذريعة، بعضها يستهدف كيان الدولة، والبعض الآخر يستهدف مليشيات مماثلة، وجزءا آخر يدخل في إطار الصراعات القبلية وفرض النفوذ، إضافة إلى النشاط المتطرف المنتحل للدين والمدّعي تطبيق شرع الله.

أشهر صولات المليشيات كانت صولة المدعو ابراهيم الجضران التي استهدفت المواني النفطية سنة 2013 وعطلت الانتاج والتصدير لمصدر الدخل الوحيد لليبيين. لم تكن تنقص الجضران الوقاحة ولا الطوية الاجرامية؛ فقد ادعى أن العدادات عاطلة، ومن ثم فله الحق من منطلق وطني وثوري أن يعطل التصدير بكامله ويحرم الدولة الليبية من نحو 20 مليار دولار. الجضران كرر صولته على المواني النفطية سنة 2017، وهو على استعداد أن يكررها في أي وقت متى ما سنحت له الفرصة. 

غزوة الشروق للمواني النفطية التي بدأتها ميلشيات مصراتة في 13 ديسمبر 2014 بقصد تحريرها من سيطرة الجيش الذي افتكها من ميلشيات الجضران في وقت سابق كانت هي الأخرى مثالا للعبث واللامسئولية، فقد سببت في موت المئات من الشباب من الطرفين واحتراق العديد من المستودعات والمرافق النفطية بخسائر بمئات الملايين.

الصراع القبلي بين ميلشيات الزنتان والمشاشية في مزدة ومحيطها في العام 2012، والتبو والطوارق في اوباري في العام 2015، والتبو وأولاد سليمان في سبها العام 2014 وما تلاه، مثل حروبا عبثية بلا معنى، قضى فيها من قضى ودمرت فيها ممتلكات عامة وخاصة.  لكن أكبر حروب المليشيات وأكثرها كارثية هي حرب ما سمي بفجر ليبيا التي اشتعلت في جنوب طرابلس في منتصف العام 2014 بين مليشيات مصراته وطرابلس والزاوية من جهة، وميلشيات الزنتان وحلفائهم من جهة أخرى.  سقط في هذه الحرب ما لا يقل عن 700 قتيل من كل الأطراف المتحاربة، ونتج عنها دمار واسع في الممتلكات أهمها: احتراق مجموعة من خزانات النفط بطريق المطار، واحتراق المبنى الرئيسي للمطار، وتدمير نحو عشر طائرات تجارية تقدر قيمتها باكثر من ملياري دولار. كما سببت في نزوح واسع النطاق لسكان مناطق جنوب طرابلس، وأهمها مناطق ورشفانة. لم يمض وقت طويل حتى تمكنت قبائل ورشفانة بمساعدة حلفائهم الزنتان من تشكيل مليشيا قوية استعادت بها زمام المبادرة وطردت ميلشيات فجر ليبيا من مناطقها، الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى تفتت تحالف مليشيات فجر ليبيا وتنازعها فيما بينها لاحقا، ولم يفيد وجود حكومة غرستها المليشيات نفسها في منع التعنت وسيادة منطق الصراع والمغالبة.

بسرعة أخذت الأمور تنحدر إلى نزاعات متواصلة لأتفه الأسباب بين المجاميع المسلحة على أسس قبلية ومناطقية، حتى أن التوتر بلغ مستوى الانفجار بين حلفاء الأمس من مليشيات مصراته وطرابلس مما أجبر ميلشيات مصراته على الخروج من طرابلس، ثم ما لبث أن أنفجر بين ميلشيا المقاتلة ومليشيا ثوار طرابلس العام 2016-2017، تمكنت فيه الأخيرة من السيطرة على الكلية العسكرية وطرد غريمتها خارج طرابلس. وفي حي بوسليم انفجرت الموقف بين ميلشيا غنيوة الككلي وميلشيا البركي العام 2016 مما تسبب في طرد الأخيرة من الحي، ثم انفجر الموقف لاحقا بين نفس الميلشيا ومليشيا المرغني العام 2017 وسبب في خروجها من حي بوسليم أيضا.

حروب الميلشيات من الكثرة والتنوع حتى أن تتبعها وتحديد حجم خسائرها أصبح أمرا بالغ الصعوبة يحتاج إلى أجهزة للتقصي والتحقيق خصوصا عندما تكون ساحات الصراع داخل المدن الداخلية والقرى البعيدة، ولعل أهم سلسلة حروب شهدتها المدن الليبية هي حروب مدينة الزاوية العام 2018 التي لا يكاد حتى أهل المدينة يعرفون أسبابها ولا أهدافها ولا حتى الأطراف التي شاركت فيها.

من جانب آخر تفاقم الغلو الديني والتطرف حتى تحولت ميلشيات أنصار الشريعة إلى الفكر القاعدي الداعشي، وتمكنت هذه المجموعات من السيطرة التامة على مدن درنة وسرت، وكانت تطمح إلى فرض السيطرة على كافة أرجاء ليبيا بما في ذلك طرابلس. الاسلام السياسي الذي كان الراعي الأكبر لأقوى الميلشيات وجد نفسه في حالة مواجهة غير محسوبة وغير متوقعة مع الميلشيات المتطرفة، وانطبق عليه المثل: من يربي الأفاعي في جيبه لابد أن يلدغ، فقد أعلنت داعش بسرت الحرب على الاسلام السياسي وعلى كافة ميلشيات مصراته التي كانت أصلا المزود الرئيسي لها بالسلاح والمعدات مثلما كانت الممون الرئيسي لأنصار الشريعة في بنغازي عبر الجرافات.

على حين غرة فوجئت ميلشيات مصراتة   بالثعابين التي رعتها تحاول التمدد في اتجاه مدينة مصراتة نفسها، وكان لابد من خوض حرب ضروس ضد تنظيم داعش في سرت استمرت لأشهر طويلة وانتهت في 17 ديسمبر 2016، ودفعت فيها مليشيات مصراته وحلقائها مالا يقل عن 700 قتيل.

في مارس 2016 حلت حكومة الوفاق بطرابلس نتيجة اتفاق الصخيرات، ورغم ما شاب هذا الاتفاق من عيوب إلا أن الليبيين تفاءلوا خيرا، وأعطوا هذه الحكومة الفرصة لضبط الأمور وفرض هيبة الدولة. وكان من أول واجباتها حل المليشيات وجمع السلاح والتأسيس لانتخابات إقرار الدستور ووضع أسس الدولة المدنية الديمقراطية. حكومة الوفاق وبعد مضئ أكثر من ثلاث سنوات اثبتت أنها أفشل حكومة في حكومات ما بعد 2011؛ فقد عجزت عن تحقيق أي انجاز لصالح الناس، لكن أكبر اخفاقاتها كان عدم قدرتها على حل الميلشيات، بل وللمفارقة أنها أصبحت مرتهنة للمليشيات إلى الدرجة التي لا يستطيع فيها رئيس المجلس الرئاسي أو أي من أعضائه أن يغادر بيته أو مقره متى ما رفضت الميلشيات إعطاء الإذن بذلك.

تحت سلطة حكومة الوفاق لا تتردد أي مليشيا في خطف أي مواطن دون أن تستطيع وزارة العدل، ولا جهاز مكافحة الجريمة، ولا السيد النائب العام، ولا جهاز الشرطة بوزارة الداخلية، ولا حرسها الرئاسي أن يحرك ساكنا. تحت سلطة حكومة الوفاق اختطفت المليشيات مدراء مصارف وأساتذة جامعات وأطباء ومدراء شركات كبرى، فضلا عن المواطنين العاديين.

قادة الميلشيات استهوتهم لعبة السلطة وجمع المال فدخلوا في مجال الاعتمادات وشركات الاستيراد الحقيقة والوهمية والتهريب، والتجارة في العقارات والأراضي بعد استحواذهم على ما يقع تحت أيديهم من اراضي فضاء تابعة للدولة أو عقارات مهملة، حتى أن الميلشياوي غنيوة الذي كان عاملا بسيطا في مخبز وضع يده على أرض فضاء مملوكة للدولة تقع إلى جوار مقبرة الحسين بالهضبة الخضراء وباشر في تقسيمها وبيعها عن طريق قريب له بسعر ألف دينار للمتر الواحد. أما ملك التهريب بالمنطقة الغربية فهو الميلشياوي أحمد الدباشي المعروف بالعمو الذي كون لنفسه الملايين من تهريب الوقود لتونس والمهاجرين إلى اوروبا عبر المتوسط، حتى أن إيطاليا حاولت التعامل معه ليقف ضد  الهجرة التي ساعد هو نفسه في اطلاقها. حكيم بالحاج رأس الجماعة المقاتلة لم يكن بحاجة للتهريب لكي ينمي ثروته، فقد استعمل ما ورثه من إبل جده في تاسيس شركة الأجنحة الليبية، أما الميلشياوي الشهير هيثم التاجوري فليس لديه وقت ليضيعه فقد كون ثروته مباشرة من تحويل مخصصات جماعته عبر مصرف ليبيا المركزي. عشرات الأمثلة لأصحاب الملايين الجدد الذين نهبوا خيرات ليبيا عبر السلوك الميلشياوي الاجرامي.

رغم مرور ثمان سنوات وعشرات المؤتمرات التي انعقدت في عواصم اوروبية وعربية، والمبادرات المحلية والأجنبية بما في ذلك مبادرات الأمم المتحدة لحل الأزمة الليبية، إلا أن الأزمة تأبى الحل لأن الأطراف الفاعلة فيها، وهم قادة المليشيات وعناصرها، يرفضون التنازل عن مكاسبهم والتخلي عن أوضاعهم المميزة التي وصلوا إليها في غياب القانون وتهتك الدولة، واستباحوا فيها مقدرات الدولة لجمع الملايين، وحولوا فيها حياة الليبيين إلى سلسلة من المآسي والأزمات والمعاناة. لقد تحولت المليشيات إلى مافيات حقيقية متغولة وموغلة في الإجرام ولا حل لها إلا تفكيكها بالقوة، واحضار كل من أجرم من أفرادها إلى ساحة القضاء، وكل الذين يرفعون عقيرتهم عن الدولة المدنية اليوم هم من المرتبطين مصيريا بالمليشيات والمتربحين من نشاطها، وهم قطعا لا يعنيهم من أمر الوطن شيئا مهما ساقوا من ذرائع وتعللوا بحجج، فقد بلغ السيل الزبى وما عاد المواطن الليبي يتحمل المزيد. يجب أن تختفي المليشيات من ساحة الوطن عاجلا وسريعا وبكل الوسائل بما فيها القوة.

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة 

كاتب ليبي