قضينا زمنا طويلا‏,‏ كانت تمثل فيه ليبيا منغصا كبيرا‏.‏ ورغم مرارات هذه المرحلة‏,‏ إلا أن مصر استطاعت تجاوز عقباتها‏,‏ بالشدة حينا‏,‏ والدبلوماسية في غالبية الأحيان‏.‏ وبعد تكرار خطف المصريين في ليبيا الجديدة‏,‏ يبدو أننا سنقضي حقبا أخري في هذه الدائرة الجهنمية‏.‏

 

عملية الاختطاف التي تعرض لها خمسة من العاملين بسفارتنا في طرابلس والقنصلية المصرية في بني غازي, أكدت ضخامة التداخل مع ليبيا, والذي لم يعد مقصورا علي الأبعاد الإجتماعية والإقتصادية التقليدية, بل امتد إلي النواحي الأمنية, في ظل نشاط ملحوظ لإسلاميين متشددين في ليبيا, لهم منابع وروافد تحاول أن تتمدد في مصر, وتنسج شبكة يصعب فك خيوطها. والمشكلة أن منطقة شرق ليبيا( غرب مصر) أصبحت, حسب تقرير نشرته صحيفة دي فيلت الألمانية الأسبوع الماضي, من أكثر مناطق العالم خطورة, لأنها تحولت إلي معقل للمتطرفين, وتضم مراكز لتدريبهم بعد تجميعهم من دول مختلفة. وكشفت معلومات أخري أن هناك قوسا كبيرا للتشدد, يمتد من سوريا والعراق والصومال والسودان وصولا إلي مالي وليبيا, تلعب فيه الأخيرة دورا رئيسيا, عقب تمركز عدد من القيادات في أراضيها, وتنسيق وتخطيط وانطلاق بعض العمليات المسلحة منها. مستفيدة من البيئة الليبيبة التي تتحكم في بعض أقاليمها ميليشيات مسلحة, خرجت عن سيطرة الدولة, ولها أنياب سياسية تدافع عنها رسميا.
الأوضاع الشائكة تفرض منح الفرصة أولا لأسلوب الليونة, وعدم استبعاد ممارسة قدر من الخشونة المحسوبة, لأن هناك مجموعة كبيرة من المصالح بين البلدين, أي تكرار نموذج التعامل مع نظام القذافي, وفقا لمفردات الواقع الجديد. فقد كان العقيد الليبي مهووسا بممارسة أقسي ضغط علي مصر وأبشع استغلال لمواطنيها وغيرهم طبعا. وفي القمة الأفريقية التي عقدت في سرت عام2009, أفرط الرجل في اجتماعاته لتمرير قرار من القمة يقضي بإعلان دولة الولايات المتحدة الإفريقية, وامتدت الإجتماعات إلي فجر اليوم التالي, حتي أن عددا من المسئولين الأفارقة غلبهم النوم علي مقاعدهم. ويومها كنت هناك وعاتبت السفيرة مني عمر مساعد وزير الخارجية للشئون الأفريقية علي صبر مصر لتتحمل كل هذا العذاب, فألمحت إلي وجود مئات الآلاف من المصريين والخوف من طردهم في أي لحظة, بالاضافة إلي سلسلة من المصالح المختلفة. وتفهمت علي مضض منطقها في ذلك الوقت. وإذا كانت غالبية العمالة عادت, قهرا أو ايثارا للسلامة, فلماذا نصبر الآن علي ما يتعرض له بعض المواطنين من انتهاكات وعمليات اختطاف علي أيدي ميليشيات مجرمة؟
الحقيقة أن ذريعة المصالح لم تعد كافية, في وقت تتجه فيه مصر إلي مرحلة واعدة من الاستقلال الوطني واحترام حقوق أبنائها, لذلك بحثت عن أسباب مقنعة تجعلنا نتجرع العذاب مرة أخري, ونتقبل المرارات القادمة من ليبيا, وكأنها قدر محتوم. ويمكن تلخيص هذه الأسباب في ثلاث نقاط. الأولي, وجود قدرة عالية علي الاختراق السياسي والأمني, المباشر وغير المباشر, مكنت مصر من تحقيق أهدافها بأقل خسائر ممكنة. والدليل الإفراج السريع عن الصيادين المصريين الذين اختطفوا في مدينة أجدابيا قبل عدة أسابيع, ثم الإفراج عن موظفي السفارة قبل أيام قليلة. والثانية, عدم الرغبة في فتح جبهات جديدة للتوتر, فإذا كانت السخونة تحيط بحدودنا في سيناء, والحذر يخيم علينا من الجنوب مع السودان, فإنه من المفضل عدم الإنجرار وراء تصعيد يأتينا من ليبيا في الغرب, والعمل علي سد منافذه تدريجيا. وقد أثمرت الخطوات التي اتخذتها المؤسسة العسكرية في مرسي مطروح في وقف السيولة التي يتدفق بها السلاح القادم من ليبيا. والنقطة الثالثة, تتعلق بما يوفره التمهل من تعرف علي المفاتيح المتبقية في خريطة الميليشيات المعقدة, لأن أي تصعيد يمكن أن يجرنا لمستنقع خارجي نحن في غني عنه, وسط علامات من الاستهداف لا تتوقف, حول المحرضين عليه وأغراضهم المشبوهة.
بالتالي التريث والتحلي بضبط النفس, سيكون نفعه أكثر من ضرره في اللحظة الراهنة, التي تعجز فيها دول كثيرة علي تحديد موطيء أقدامها في ليبيا, بعد دخولها مربعا من التطرف, مرشحا أن يلازمها فترة من الوقت. وبدأت تأثيراته السلبية تنفجر في مناطق مختلفة من قارة أفريقيا. ولعل الارتباط الوثيق بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي الإسلامي النشيط في جنوب الجزائر وشمال مالي يؤكد المخاطر التي تخرج من الساحة الليبية. فقد وفرت عمليات تهريب السلاح من وإلي أضلاع هذا المثلث قدرة تدميرية هائلة في يد أصحابه. كما أن أوروبا لن تكون بعيدة عن البراكين الليبية المتوقع انفجارها في وجه عدد من دولها, ساهمت سياساتها عن عمد أو بدونه, في تجميع ألوان مختلفة من التشدد الإسلامي في ليبيا.
إذا كانت لعنة هذه الدولة مستمرة في ملاحقتنا, فإن التعامل معها بمرونة لن يدوم طويلا, لأن ضرب رأس الحية في الداخل المصري, لا يلغي تتبع ذيولها في ليبيا وغيرها. وهو ما يفرض الاستعداد مبكرا لمعركة غير بعيدة لقطع الذيول, حتي لا تعود الحياة للرأس, التي تلقت ضربات موجعة خلال الفترة الماضية, وأوشكت علي السقوط.