في عصرنا الذي نعيش، بلغت الالتهابات الأخلاقية حدّ الوباء أو الجائحة، لم يعد عمى الألوان مقتصراً في نظر من أصيب بالمرض على أطياف اللون بالمعنى الحقيقي للمفردة والمتعارف عليها بين بني البشر، بل شمل أيضاً بعماه أطياف اللون السياسي والاجتماعي وكل ما له علاقة بحياة الناس، بحيث اختلطت الأمور إلى الدرجة التي دخل فيها كل شيء مرحلة الاحتجاج والفوضى التي تعكس بلوغ الوضع العام حالة عدم الرضا عن ما يجري في المجتمعات المغاربية، وهو ما بدأت آثاره السلبية بالظهور في مجتمعاتنا على نحو لا يمكن تجاهله، حتى من قبل من أصيب بالحَول (بفتح الحاء).

كيف نؤلف وقتاً ليس متواطئاً مع استهلاكية الحواس والأخلاق المتقهقرة والأفكار والعلاقات اليومية والسلوك؟ وكيف نحمي الوجود المغاربي من البطالة الوجدانية؟ العلاقات المتهالكة تحت ضغط الفقر الروحي، تشبه الفواكه المهترئة المتروكة عند أبواب الدكاكين... والسلوك المصاب بالفلتان الإنساني كالطفح الجلدي...‏ الأمر صعب لأن بطالة الوجدان أصعب أنواع البطالة...‏ لقمة العيش لها وقع سحري على سمع الأيام والحياة، لكن لقمة الوجدان أمر وأقسى... وجوع الكرامة أشرس جوع عرفته الإنسانية المعاصرة... في القديم كانت الكرامة تجوع وتدافع عن جوعها بأساليب واضحة...

اليوم جوع الكرامة ملغم والكشف عنه له أساليب وابتكارات... الكرامة حين تجوع كثيراً، تأكل نفسها ويصير الخلق فقراء كرامة...‏ وفي سياق هذا الوجع الوجداني الذي يعانيه وجدان الإنسان المغاربي (العاطل أو المعطل) يأتي وقت آخر شقيق هو وقت استقالة القناعات المصدقة وتوقفها عن الدوام اليومي... حتى القناعات العفوية التي لم تصدق بعد، انقطعت عن مواصلة اهتماماتها وهمومها وحضور الحفلات والأعراس واللقاءات العائلية والاجتماعية والرسمية... كرامة تأكل الكرامة وبطالة تصدم الوجدان والقناعات؟!.‏ 

أغلب الوجدان دهمته ودهسته عجلات المكر الاجتماعي والقناعات الاستهلاكية والأخلاق المستعملة...‏ والمسؤولون العديدون منهم يحبذون الأخلاق المستعملة ولعلهم يعطلون وجداناتهم أو يستعيرون خبرة وجدانات مستقيلة ومصابة بالعطالة والبطالة... ولا يعنيهم أن قناعاتهم الإنسانية فاقدة للصلاحية والتوازن الإداري والعقلي والعاطفي والعائلي والعلمي...‏ تغيب قناعاتهم وتنقطع عن الدوام بإجازة أو دون إجازة ولا يقلقون وأحياناً تصير إلى دور الأيتام والمصحات العقليّة ولا يقلقون...‏ لأن لديهم قناعات بديلة تصلح للاستخدام المؤقت مثل صحون الكرتون والبلاستيك... ونرى هؤلاء عند كل حالة ومفترق وجدان يستخدمون قناعات مختلفة، ثمّ يبدّ لونها في مكان آخر وعند حالة أخرى ومفترق وجداني آخر...‏ مفترقات

وجدانات المسؤولين المستقيلة إنسانيتهم وقناعاتهم الإنسانية الراقية قلقة ومضطربة وتؤدي إلى الأودية الموحشة وصخب الحواس والبطالة الوجدانية... وقوانين الوجدان خاصة جداً وتتحدث من الوجدان ذاته...‏ كيف تعود القناعات الراقية إلى وظيفتها؟‏ وكيف ينتعش الوجدان الراقي بعد طول انقطاع عن مزاولة العيش والحياة؟ فالحضارة المعاصرة، رغم كثافة ابتكاراتها واكتشافاتها لم تصل بعد إلى حسّاسّات كاشفة تفحص نقص القناعات الوطنية الجيدة عند المسؤولين واختلالات الوجدان وتصدعاته...‏ اللقمة الجهنمية وهمجية الاستهلاك وتضخم النجاحات الملغمة المعادية لقناعات العيش الكريم والكرامة النضرة غير الجائعة، وتشوهات الأخلاق الولادية مثل شلل الأطفال والأمراض السارية... مساهمات وماركات مسجلة ابتكرت زمناً متواطئاً مع قناعات التواطؤ والدناءات والانحطاط...‏ حتى صار الانحطاط ميزة ورغبة ونجاحاً عند الكثيرين والكثيرات...‏ كم ينحط هذا المسؤول وكم يقدر هذا المقبل على المسؤولية أن ينحط؟!

أسئلة برسم عافية القناعات وصحة الوجدان ويوميات الناس المخلصين لهواياتهم الإنسانية كالصدق والوفاء والعطاء وحقائق النفس والمساواة وفضائل الحب...‏ في الزمن التائه عن الوجدان والقناعات الجيدة، وفي الزمن الذي يوافق إنسانه على استقالة وجداناته وقناعاته يحصل انحطاط كثير ويتقاعد ازدهار الحب البشري والعلاقات الإدارية الراقية والعلاقات الحياتية القابلة للحياة، ويشعر الانحطاط بالتخمة والبطر، ويشعر الازدهار بالتعب والعيب؟! الأمل طيب وحنون أن ترجع القناعات الجيدة إلى وظيفتها ودوامها اليومي وأن يعود الوجدان الجميل إلى مزاولة اهتماماته وهمومه وحياته التي تستحق الرعاية والألفة والشجاعة.

الأوطان تشبه قناعات أهلها، ووجدانهم يزدهر كازدهار القناعات ويتوقف عن الحياة بتوقفها وحين يستقيل الوجدان وينقطع عن دوامه ووظيفته يصير الوطن (عاطلاً معطلاً) ويستقيل من مهنة الازدهار... ويتقاعد الحب الوطني قبل السن القانونية أو يفكر بالانزواء...‏ الانحطاط مهنة رديئة وسيئة ولا ينبغي الاحتفاظ بها والرغبة بمزاولتها، كل وجدان ينقصه ازدهاره، وعليه أن يعود إلى وظيفته ودوامه، والقناعات الراقية يحق لها معاودة الدوام، نحتاج إمضاءات القناعات كل يوم مثل وظيفة المدرسة...‏ والمسؤولون رعاهم القدر... يحق لهم القناعات الراقية والوجدان الوطني النبيل بدلاً عن القناعات النفعية التي أغرقت الوجدان بالمصالح الذاتية والعلاقات المؤقتة والدارجة...‏ والأخلاق المستعملة جداً والمستهلكة من كثرة استخدامها لأغراض لا تخدم الألفة والعلاقات الراقية...‏ يمكن للوجدان العودة إلى دوامه دون معاملات إدارية ملتوية وشاقة، ويمكن للقناعات الأصيلة والناجحة في امتحانات الرّقي الوطني إلغاء الاستقالة والدوام من غير موافقات أصولاً أو إجراء اللازم...‏ فالاتحاد المغاربي أوطان جميلة تستحق وجداناً جميلاً وقناعات جميلة لا تستعمل لمرة واحدة ثم تستبدل.‏ 

كاتب صحفي من المغرب.