برهان هلاك

وصل رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس إلى تونس، مساء الأربعاء الموافق للثاني من يونيو 2021، في أول زيارة دبلوماسية له منذ تعيينه ستستغرق يومين، و يشارك خلالها في أعمال الدورة الثالثة للمجلس الأعلى للتعاون التونسي ـ الفرنسي.

و يمكن قراءة هذه الزيارة على ضوء المعطى الداخلي التونسي المتأزم و المضاعفات التي يتسبب بها هذا الوضع في علاقة بتأمين الحدود البحرية في البحر الأبيض المتوسط، و هو ما يدفع برئيس الحكومة الفرنسية إلى العمل على " تعزيز العلاقات " مع بلد يشهد أزمة غير مسبوقة في شمولية أبعادها السياسية و الاجتماعية والاقتصادية والصحية و الأمنية فيما يتعلق بملف الهجرة السرية الذي يقض مضجع فرنسا و القارة العجوز المترنحة أصلا من جراء الإنهاك الوبائي و مخلفاته الاقتصادية و المالية.

إن اختيار كاستكس لتونس كوجهة أولى يفتتح بها مسار زياراته الديبلوماسية الدولية و حرصه على المشاركة في أعمال ندوة بين ـ حكومية في إطار أشغال نسخة سنة 2021 من ندوات المجلس الأعلى للتعاون الفرنسي ـ التونسي يمكن أن يُفهم من جانب التوجه نحو الاتصال المباشر بالقيادة الجديدة بالبلاد التي هي من مخرجات منظومة الانتخابات الرئاسية (التي أتت بقيس سعيد رئيسا للجمهورية) و التشريعية و التي أعقبتها استقالة رئيس الحكومة بعد أشهر من نيله للثقة لتتم تسمية رئيس الحكومة الحالي، هشام المشيشي، في يوليو 2020. و لكن هذا الحرص يبدو أنه مدفوع بضرورة تلح على الفرنسيين في علاقة بمزيد اكتشاف حيثيات الاضطرابات السياسية الكبرى التي أفضت إلى دخول رأس الدولة في صراع مع حزب النهضة الإسلامي باعتباره القوة الرئيسية في برلمان مجزأ و مفتّت. و بالتالي، تتنزل هذه الزيارة في إطار من التوتر و انعدام الطمأنينة انعكست على الأولويات التي سطّرها ساكن ماتينيون كبرنامج لزيارته إلى تونس، و على رأسها الأزمة الصحية و مخلفاتها. و قد يعلّل إيلاء الأولوية القصوى للمسألة الصحية الطارئة الناجمة عن تفشي وباء فيروس كورونا بالمخاوف التي تثيرها موجة رابعة يحتمل حدوثها الذي سيكون كارثيا على النظم الصحية التونسية المنهكة أصلا و التي أصبحت تفتقر إلى أهم وسائل التطبيب و معالجة ضحايا هذا الفيروس في بلد يخرج لتوه من موجة ثالثة انطلقت في أول الربيع و أثارت مخاوف جدية من نقص فادح في كميات الأكسجين، و لذلك تذكّر صحيفة لوبوان بأن فرنسا ملتزمة بتسليم وحدات إنتاج الأكسجين المستقلة إلى ثلاثة مستشفيات تونسية في المستقبل القريب، و هو ما يجعل من مسألة دعم تونس في مواجهة الجائحة محور رئيسيا للمباحثات الثنائية بين رأسي حكومات البلدين. كما ذكّر أحد مستشاري رئيس الحكومة الفرنسي بالتزام الرئيس الفرنسي بمؤازرة تونس في الحث من نسق حملة التطعيم في بلد صرّح وزير صحته بأنه سيستغرق 3 سنوات بأكملها لتطعيم 70 بالمائة من التونسيين إذا ما تواصل نسق التلقيح على ما هو عليه من بطء.

أما على مستوى مناقشات الوضع الاقتصادي التونسي، فقد ذكّر رئيس الوزراء الفرنسي بما أسماه " نقائص و محدودية اقتصادية " تونسية لا يمكن التغاضي عن فداحتها مهما التزم بديبلوماسية الخطاب و مقتضيات الصوابية السياسية؛ اعتبرت لوفيغارو الاقتصاد التونسي اقتصادا نضبت في شرايينه الدماء في كناية عن كونه مثقلا بديون تسد مجاري الدماء الضرورية لإعادة إحيائه ونموذج تنمية ميت سريريا يقوم على استغلال رخص اليد العاملة. إلا أن الاهتمام الأكبر بالجانب الاقتصادي خلال الزيارة من المفترض أن يكون تونسيا في وضع اقتصادي يترنح منذ سنوات و يهدد الديمقراطية الفتية بالبلاد، و يعاني من مخلفات الجائحة التي رفعت معدلات البطالة لتبلغ 17.4 % بعد أن استقرت في عتبة الـ 15 % قبل تفشي الوباء، و يشهد نسب نمو سلبية تقدّر بـ 8.8 % في سنة 2020

أما و الحال أنّ الجانب التونسي، كدأبه منذ سنوات طويلة، يقتصر على تمنية النفس بالمزيد من عمليات إعادة تحويل الديون المستحقة لفرنسا، التي اعتبرها مستشار لرئيس الوزراء الفرنسي " هزيلة " (831 مليون أورو في 2018)، في حين كانت إجابة أحد مستشاري رئيس الحكومة الفرنسية على سؤال حول مسألة الديون بالقول بأن الهدف هو مناقشة الإصلاحات و تقديم المشورة بشأن تنفيذها السريع و أفضل السبل لدعم تونس في مناقشاتها مع المؤسسات المالية الدولية، حيث تتوقع تونس قرضًا جديدًا من صندوق النقد الدولي يتم سداده على مدى ثلاث سنوات و ذلك في مقابل وعود بالإصلاحات

و يمكن مباشرة المخاوف الفرنسية من مزيد تأزم الأوضاع الاقتصادية بتونس من خلال ما يمكن أن تنتجه هذه الأزمة الاقتصادية الداخلية من صدمات داخلية لها أيضًا عواقب مباشرة على الاتحاد الأوروبي الذي يجري حاليًا مناقشات مع تونس بشأن اتفاقية مساعدة اقتصادية مقابل جهود لمنع مغادرة المهاجرين؛ 15٪ من المهاجرين الذين يصلون عن طريق البحر إلى أوروبا هم تونسيون، و هم يشكّلون أكبر مجموعات المهاجرين غير الشرعيين.

و تتواجد تونس في مركز " منظومة " الهجرة السرية حيث أنها تتّسم بكونها بلد مغادرة يمتطي فيه الشباب التونسيون قوارب الموت نحو الضفة الشمالية للمتوسّط، و ذلك في رفقة شديدة التنوع من جهة الجنسيات جنوب ـ الصحرواية و حتى شمال ـ الإفريقية، و هو ما يجعلها نقطة عبور أيضا و رابطا بين إفريقيا و أوروبا التي صارت مفزوعة من اقتسامها لحدود مع التشاد من جهة ليبيا، و مع مالي و النيجر من جهة الجزائر! و بذلك يمكن قراءة الزيارة الرسمية للوفد الحكومي الفرنسي من جهة كونها جولة تفاوضية جديدة في مسار الاتفاق حول فكرة إقامة مخيمات عبور للمهاجرين في تونس، و ثم توطينهم بالبلاد، و التي يطرحها الأوروبيون بانتظام رغم أنها لا تحظى بمقبولية كبيرة من الجانب التونسي

هذا دون التغافل عن مسألة التطرف الإسلامي التي تقض مضجع الفرنسيين و التي كانت دافعا لجولة وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين، بالمغرب العربي في نوفمبر الماضي و التي تمحورت حول القضية الشائكة المتمثلة في عودة الأشخاص الموسومين بالتطرف إلى بلدانهم الأصلية، و التي أعقبت العملية الإرهابية بمدينة نيس الفرنسية في أواخر شهر أكتوبر 2020؛ إن ما يثير الاهتمام بهذا الموضوع هو التبادل غير المعلن و غير الرسمي للتهم بين جانب فرنسي يريد العودة بهم إلى بلدانهم الأصلية التي يسمها بتنشئتهم على التطرف و العنف باسم الدين كالشاب الذي قام بعملية نيس المترجل لتوه عن قارب هجرة غير شرعية، و بين جانب تونسي و كأنه يقول بأن هؤلاء قد تحولوا إلى متطرفين في الديار الفرنسية، و يدلّلون على ذلك بمثال مقترف عملية رامبوييه في أبريل الماضي و الذي كان مستقرا بفرنسا منذ سنه 2009، كما يشير إلى ذلك الكاتب و المستشار الفرنسي حكيم القروي.

و مهما يكن من أمور الزيارة غير المعلنة، فإن تونس بظل بأمس الحاجة للالتفاتات الرسمية للبلدان ذات الوزن الإقليمي و العالمي المهم و ذلك في إطار سعيها المحموم لضمان كفالات و ضمانات تستطيع تقديمها للجهات المانحة الدولية في وضع خانق يجعلها في موقف الضعف من المفاوضات في أي ملف سيسعى أي طرف من الأطراف تمريره بليّ ذراع ديبلوماسي و فطنة كبيرة تقتضي استغلال فرض التقهقر و تجييرها لخدمة أهدافها و مخططاتها؛ يتنزل الانطلاق في الرفع التدريجي، و غير الصريح و المعلن، للدعم و إمكانية القبول بتوطين المهاجرين، رغم هشاشة الوضع الأمني، ضمن " التنازلات المؤلمة للغاية و التي ستضطر تونس لتقديمها في اتجاه حصولها على تمويلات كبيرة تحتاجها البلاد.