مصطفى حفيظ

هناك مدن في العالم لا تنام، مسارح وسينما ونوادي ليلية، مطاعم وأمسيات شعرية، فلكلور شعبي ومقاهي وجلسات أدبية، المدن التي لا تنام تجلب السياح إليها، تسحرهم وتغويهم بوهج الفن والمسرح والثقافة واللهو والسهر، كل ذلك قد تجده في مدن مثل نيويورك، باريس، مدريد، بيونس آيرس، القاهرة، بيروت، ...أو غيرها من تلك المدن التي لا تعرف الكآبة الثقافية والترفيهية، ولا يشعر الساكن فيها أو السائح إليها بالضجر، على العكس، هناك مدن تنام باكرا، تماما مثلما هي عليه مدن الجزائر، في العاصمة كما في وهران أو عنابة أو قسنطينة، كآبة ثقافية وترفيهية، كل شيء يغلق باكرا، ومن كآبتها تخالها مدن أشباح، فما السبب؟ 

سألت صديقا لي يقيم في باريس ماذا تفعل الآن، وكان الوقت ليلا، فأجاب: " أنا ذاهب للسينما لمشاهدة فيلم مع أصدقائي"، لم أندهش طبعا، فمدينة مثل باريس أكيد أن دور السينما بها لا تغلق أبوابها في ساعة مبّكرة من الليل، فهي من إحدى العواصم التي لا تنام، فكيف يشعر الواحد بالضجر في مدينة بها سينما، مسارح، دور ثقافة، متاحف، أوبرا، مكتبات، مقاهي ومطاعم، نوادي ليلية وساحات تعجّ بالناس ليلا، لعل هذا ما يجعل مدينة ما حيّة ثقافيا، وليست باريس وحدها المدينة الحيّة ثقافيا وترفيهيا، بل هناك الكثير من المدن حول العالم مفعمة بالحياة، عكس مدننا نحن. 

ولست هنا أقارن مدينة بمدينة من باب التقليل من شأن مدننا العريقة، التاريخية والثقافية، فنحن هنا أيضا، نملك من المقوّمات ما يجعل مدننا جميلة وحيّة ثقافيا وترفيهيا، بل وسياحيا أيضا، فهناك دور السينما، والمسارح، والمكتبات والمقاهي وحتى الجمعيات الأدبية والثقافية، كما هناك متاحف ودار للأوبرا كذلك، هل تفتح أبوابها كل يوم؟ هل ما زال المسرح الجزائري نفسه؟ هل هناك عروضا تقدم يوميا، أسبوعيا؟ شهريا؟ أو شيء من هذا القبيل؟ 

يجب أن تكون هناك مسارح ودور سينما مفتوحة ليلا، أو مقاهي الشيشة مثلا كما في القاهرة، أو مطاعم تفتح طوال الليل، كي تحيا الحياة الثقافية والترفيهية في بلد ما، لكن في مدننا، يدخل الجميع بيوتهم في أولى ساعات الليل، لماذا؟ صحيح أن سنوات التسعينات التي عاش فيها الجزائريون ويلات الإرهاب ساهمت في قسط كبير من هذا الخوف من الليل، ففي تلك الفترة، أجبرت دور السينما على غلق أبوابها، وبالكاد كانت المسارح تقدم عروضا في هذه المدينة أو تلك، فالإرهاب الاسلاموي كان يحرّم كل ما هو فنّ وثقافة، وتعرّض العديد من المثقفين والفنانين والصحفيين والكتّاب إما لعمليات اغتيال أو تهديد أو مطاردة.

مع ذلك، يحزّ في نفسك رؤية مدن كالعاصمة، أو وهران، أو عنابة أو مدنا أخرى في الجزائر، تغلق أبوابها في ساعة مبكرة من الليل، هل مات الحسّ الفني الثقافي عند الجزائريّ؟ هل ما زال يشعر بذلك الخوف من السهر ليلا بسبب الإرهاب؟ مع أننا لسنا في تلك الفترة، وليس هناك حربا أو حصارا أمنيا أو حالة طوارئ تمنع الناس من الخروج والسهر والترفيه عن نفسها؟ 

ربما يعيش الجزائري حالة من "الديقوداج" وهي عبارة شائعة في اللهجة الجزائرية وتعني الكآبة، أو الضجر من وضع ما، ولعل كآبة الحياة التي يعيشها جراء اهتمامه بالماديات أكثر هو ما جعله لا يعرف طريقا للسهر أو الترفيه ولا التمتع بكل ما هو ثقافي، وقد يكون سبب هذه الكآبة هو اهتمام الناس بالماديات أكثر من الثقافة، ربما بسبب غلاء المعيشة، وقلة وسائل النقل ليلا، وضعف الدخل الفردي لفئات واسعة من المجتمع، كل هذا قد يجعل الذهنيات تنشغل بالخبز اليومي للحياة أكثر من الترفيه والثقافة، ولا يجب أن ننسى تغيّر سلوكيات الناس مع غزو وسائل التواصل الاجتماعي واهتمام الناس بالحياة الافتراضية أكثر، وهذه إحدى أهم أسباب عدم اهتمامهم بعرض مسرحي أو فيلم سينمائي مثلا، مع ذلك، لا يظهر على مسؤولي الثقافة أنهم يملكون مشروعا جادا لإعادة احياء الحياة الثقافية، فكل ما هنالك، هي عروض مناسباتية، حتى تلك التظاهرات التي كانت تستقطب الجماهير اختفت، فلا معارض كتاب، ولا قوافل ثقافية تجوب المدن والشوارع، فجأة حلّت الكآبة في الحياة الثقافية لدرجة تحوّلت مدننا ليلا إلى مدن أشباح.