برهان هلاك

ما فتئ الرئيس التونسي قيس سعيّد يؤكد على أنّ " تونس دولة حرة مستقلة ولا مجال للتدخل في شؤونها، قائلا بالأصالة عن الشعب التونسي أن " نحن لسنا بستاناً أو حقلاً، بل إننا دولة ذات سيادة لن نقبل لها أن توضع فوق أي مائدة أجنبية". و قد أعلن قيس سعيّد ذلك خلال الكلمة التي افتتح بها أول مجلس للوزراء في الحكومة التي تم تشكيلها حديثا، و التي ترأسها السيدة نجلاء بودن. و يواجه الرئيس التونسي ضغوطاً خارجية متصاعدة، و ذلك في سياق إنهاء الأوضاع الاستثنائية التي تم فرضها منذ 25 جويلية الفارط، ولا يزال العمل بها سارياً حتى اللّحظة. و رغم تشكيل حكومة جديدة لإدارة الأوضاع السياسية والاقتصادية والصحية المتأزمة في البلاد، فإن " قلقا و مخاوف " دوليّة تجاه مدى إحترام الحقوق و الحريات والممارسات الديمقراطية في تونس لا تزال قائمة.

و إذا ما ملنا إلى تصنيف تمظهرات هذا التدخل الدولي في الأزمة البرلمانية و السياسية الحالية فإننا سنلاحظ تباينا في أشكال تدخل القوى الدولية المنصبة أنظارها على التطورات بالساحة التونسية.

و تبرز الزيارات و المقابلات المتعدّدة لمسؤولين سامين بدول أجنبية مع الرئيس و بعض كبار المسؤولين من الجانب التونسي كإحدى أهمّ صيغ هذه التدخلّات؛ و نذكر في هذا المستوى زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، يال لامبارات، و لقاءها مع وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي في 20 أكتوبر الجاري حسب ما يشير إليه موقع " الحائط العربي ". و على الرغم من أنّ فحوى الزيارة كان تأكيدا من الجانب الأمريكي على " مواصلة دعم الولايات المتحدة " لما تعتبره " تصحيحا للمسار في تونس"، إلا أن غير المنطوق هو قلق و حرص أمريكي على تتبع أدق تفاصيل تطورات الأوضاع السياسية في تونس. وجاءت زيارة المسؤولة الأمريكية لتونس عقب زيارة وزير الدولة الألماني للشؤون الخارجية للتعبير عن القلق الأوروبي تجاه الأوضاع السياسية الحالية في تونس، وخاصة في ظل تجميد عمل البرلمان. كما استدعى الرئيس التونسي سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى تونس ليوصل من خلال ذلك رسائل طمأنة للإدارة الأمريكية مفادها التأكيد على دستورية التدابير الاستثنائية، و مدى إحترام الحقوق و الحريات العامة و تطبيق القانون على قدم المساواة و ضمان الحق في محاكمات عادلة. و كلّف قيس سعيّد وزير خارجيّته بنقل رسائل سياسية واضحة لممثلي الدول الأجنبية الذين قاموا بزيارة البلاد خلال الفترة الأخيرة مفادها أن التدابير الرئاسية المتخذة من قبل رئيس الدولة قد تمّت صياغتها في إطار الدستور، و في احترام تام للحقوق والحريات الأساسية لأفراد المجتمع التونسي، و هو ما يكون كفيلا بتبديد المخاوف من نشأة ديكتاتورية جديدة و تقويض " النموذج الديمقراطي التونسي ".

أما الشكل الثاني للتدخلات الدولية في الشأن التونسي على إثر ليلة 25 جويلية 2021 فهي تشمل جلسات الإستماع في المؤسسات النيابية والتمثيلية بشأن الأوضاع في تونس؛ لقد خصّص الكونغرس الأمريكي جلسة لمناقشة الأوضاع في تونس، و تم فيها التعبير عن قلق واشطن من " تعثّر المسار الديمقراطي " وما قد ينجرّ عن ذلك من إفساح المجال لإختراق التنظيمات الإرهابية للمجال التونسي من جهة ليبيا و منطقة الساحل و الصحراء. و قد تمت الإشارة إلى ما يمكن أن يؤدّي إليه ذلك من تردّي الوضع الأمني بتونس، مما سينعكس سلبا على مصالح الدول الأجنبية و إلتزامات الدولة التونسية ذاتها.  و قد خلصت الجلسة إلى أن "الديمقراطية التونسية مهددة"، و هو ما يعني ضغطا هائلا على الرئيس التونسي مأتاه استمرار العمل بالتدابير الاستثنائية التي اتخذها منذ 25 جويلية الماضي، و التي تتواصل دون تحديد سقف زمني واضح بعد تمديدها للمرة الثانية في 22 سبتمبر الماضي. يضع مثل هذا المأزق قيس سعيّد بين فكّي وضع اقتصادي صعب للغاية و إرهاصات عزلة دولية من الممكن أن تزداد حدّة.

و تندرج جلسة التصويت على مشروع قانون خاص بالأوضاع السياسية الراهنة في تونس صلب البرلمان الأوروبي في نفس هذا الإطار، إذ صوّت أعضاء البرلمان الأوروبي بأغلبية ساحقة (534 صوتاً من إجمالي 685 صوتا) على فصول هذا القانون الذي ينص على دعوة الرئيس التونسي " للعودة إلى العمل الطبيعي لمؤسسات الدولة"، بما في ذلك " العودة إلى الديمقراطية الكاملة"  و " إستئناف النشاط البرلماني في أقرب الآجال" كجزء من الحوار الوطني، بالإضافة إلى التأكيد على ضرورة الإعلان عن خارطة طريق واضحة تحترم الدستور و تلتزم بصون الحقوق والحريات العامة. و يزيد هذا القانون من شدة وطأة الضغوطات الدولية، و بالأخص من قبل الإتحاد الأوروبي بما هو الشريك الإقتصادي الأول لتونس و الذي تعتم تعتمد البلاد على دعمه لمسار الإنعاش الإقتصادي و المالي.

أما المظهر الثالث للضغوطات الدولية التي يتعرض لها الرئيس التونسي قيس سعيد فتتمثّل في التلويح بإجراءات صارمة إذا ما استمرّ الوضع على ماهو عليه. و نستشفّ ذلك من خلال التصريحات الأخيرة للممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيل بوريل، الذي حثّ الرئيس قيس سعيد على ضرورة تفعيل العمل البرلماني، و طالبه بصون مصداقية تونس على المستويين الداخلي والخارجي بإعادة النظام الدستوري والمؤسساتي العادي. كما شدّد بوريل على محورية احترام الفصل بين السلطات في إشارة إلى سخط أوروبي من جمع محتمل للسلطات الثلاث بيد رئيس الجمهورية التونسية، خاصة على إثر قرارات الإقامة الجبرية التي اتخذتها وزارة الداخلية بإيعاز من رئاسة الجمهورية. و يمكن أن نفهم من ذلك تلميحا بإمكان إتخاذ تدابير صارمة في حالة عدم الاستجابة لهذه المطالب، و ذلك دون تحديد ماهية هذه التدابير بالضبط. و إن في ذلك تدلال على طبيعة الضغوط الأوروبية الحالية ضد الرئيس التونسي، من قبيل تجميد عضوية تونس في إتحاد برلمانات الدول الفرانكفونية، و تأجيل قمة البلدان الفرانكفونية التي كان من المقرر تنظيمها بنهاية العام الحالي في جزيرة " جربة " التونسية.

ويواجه الرئيس التونسي قيس سعيد مثل هذه الضغوطات بتوجيه إنتقاداته للدول الأجنبية التي إتّهمها بمحاولة " النّيل من سيادة الدولة التونسية"، وذلك في كل لقاء يجمعه بممثلين عن تلك الدّول. كما عبّر كذلك عن رفضه لتدخلاتهم في الشؤون الداخلية التونسية. و لطالما أكد قيس سعيّد على رفضه الرجوع إلى مرحلة ما قبل 25 جويلية، و على إستمراره في تطبيق كافة الإجراءات التي تُمكّنه من تغيير المشهد السياسي في البلاد بما يتماشى مع توجهاته السياسية لحماية الدولة التونسية من خطر الإنهيار و التفكك الداهم. كما أعلن قيس سعيد في المقابل عن النية في عقد حوار وطنيّ للتباحث في مواضيع محورية من قبيل تغيير النظامين السياسي والانتخابي، و ذلك في سقف زمني محدّد و بهدف إقرار آليات إجرائية و طرح توصيات و مقترحات عمليّة. و يكون هذا المقترح إجراء يطمح من خلاله إلى دحض مزاعم المعسكر المعارض له، و الذي يلقى أصداء دوليّة، بالتفرد بالحكم و السلطوية و التأسيس لديكتاتورية.