عبد الستار العايدي

بين دعوة القضاة والهيئات القضائية للحفاظ على إستقلالية القضاء من أي تدخل مهما كان وتثبيت الطريق الصحيح للإصلاح المؤسسة القضائية، وبين سعي قيس سعيّد الحثيث لإيجاد مخرجا وسبيلا لحل المجلس الأعلى للقضاء وبداية التأسيس لإصلاح جذري للسلطة القضائية مستندا إلى أن دستور 2014 لم تعد له من الصلاحية بما يخدم مصلحة الشعب، لا يزال الصراع بين السلطتين محتدما وقد إستعرت جذوته مجددا في الفترة الأخيرة.

مجرد النجاح في إيجاد مشروعية الأسس التي يتم على أساسها تعليق العمل بالدستور، سيفتح الباب الموصد أمام قيس سعيّد لنسف المنظومة القديمة من أجهزة القضاء وخلق منظومة من الهيئات الجديدة التي يراها هي الطريق الأمثل للعدالة الحقيقية التي تستمد شرعيتها ومشروعيتها من مطالب الشعب، هذه المطالب أو أصوات الشعب التي سيجنيها سعيّد من الاستشارة الشعبية أو الاستفتاء الذي أمر بإنجازه حول الإصلاحات اللازمة في عدد من المجالات هي نفسها ستكون المسمار الأخير في نعش دستور 2014.  الخوف من هذا النجاح هو الذي دفع القضاة إلى الإفصاح عن توجّسهم والتصريح أن إنشاء دستور جديد أو تعديله سيلغي مفهوم القضاء الذي يستمد مشروعيته من الدستور الشامل والحقوقي الحرّ.

فيما يعتبر القضاة أن السلطة القضائية، مستقلة ولها سلطة التقدير وليست وظيفة تقدم لها التوصيات من السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية، يأتي تصريح قيس سعيّد برؤية جديدة تؤسس لمنطق أن القضاة هم موظفين للدولة وليست لهم سلطة توازي في قوتها السلطة التنفيدية أو سلطة البرلمان، وجهتي نظر متضاربتان تأكدتا بعد تصريح إعلامي لإحدى القاضيات بأن "القضاة لا يريدون القضاء في قصور السياسة مثلما لا يريد قيس سعيّد السياسة في قصور العدالة" ، قد يحيل ذلك على الصراع المتجدد حول مناطق النفوذ للسلطتين في المشهد السياسي العام والذي لن ينتهي إلا بنهاية المنظومة القديمة للقضاء وما تم إعتباره أيضا تحويل سلطة القضاء لتكون في تبعية وتحت وصاية السلطة التنفيذية أو نهاية فترة حكم قيس سعيّد.

سلطة قضائية جديدة بتصورات يحملها رئيس الدولة أجبره على إستغلال كل آلات هدم " قصور العدالة" التي إعتبرها قد إهترأت جدرانها وتغلغل فساد الأفكار ومرض الأجساد إلى ساكنيها، ولذلك وفي كل لقاء رسمي ينبش دفاتر بعض القضاة وإتهامهم بالفساد والمحسوبية أو الذين تعلقت بهم تهم الإرهاب ومسألة البيروقراطية التي تعشّش في جهاز المجلس الأعلى للقضاء وغيره من الهيئات الذي يرى أن حلّها وتجديد عناصرها من أوكد النقاط التي ستسجّل بداية إصلاح القضاء، إلى جانب إستغلال سلطته للتدخل بصفة مباشرة في القضاء بدعوته الحسم في عدد من القضايا التي لازالت عالقة.  

التساؤل المطروح اليوم هو، فعلا هل يسعى قيس سعيّد لتأبيد حكمه فترات رئاسية أخرى، وهو ما يبحث له الجهاز القضائي بأكمله عن أدلة دامغة تقطع الطريق أمامه وأمام مشروعه السياسي البديل والذي سيكون فيه القضاء مجرّد خادم لمصالح "قصر قرطاج" السياسية، هذه النهاية التي لم يستطع الوصول إليها أيّ من رؤساء الجمهورية التونسية السابقين إلا بصفة جزئية، خاصة بعد فشل قيس سعيّد في السيطرة على القضاء والخلاف القائم مما أجبره على اللجوء إلى القضاء العسكري بدل القضاء المدني في قضايا تخصّ مدوّنين وصحفيين ونواب برلمان سابقين، وقد يملك القضاة هم كذلك الأسلحة التي تضطرّه إلى خسارة بعض من معاركه أو حربه ككلّ ضدّ المنظومة الحالية، هذه الاسلحة منها الإضرابات العامة والاستقالات الجماعية، النقطة التي يتحاشى سعيّد الوصول إليها في الوقت الحالي قبل نهاية الاستشارة الشعبية، خوفا من خلق أزمة إضافية إلى جانب الأزمات الأخرى المتفاقمة التي تهدّد شعبية رئيس الدولة.

في وسط الصراع بين السلطتين، يتقاذف سعيّد والقضاة مكونات المجتمع المدني ومكونات المشهد السياسي، تأجيلا للحظة حاسمة، بين المطالبين بحلّ المجلس الأعلى للقضاء وإصلاح العدالة على طريقة قيس سعيّد وبين المخالفين والداعين لبقاء المنظومة القديمة على حالها بدعوى الخوف من سيطرة قصر قرطاج على القضاء وتغوّل ديكتاتورية سعيّد، ومن خلال حركة المدّ والجزر بينهما يتّضح أن الصراع الظاهر هو مجرّد صراع سياسي خفيّ لازال قائما بعد 25 جويلية بين قيس سعيّد من جهة والوجود الإخواني ومنظومة الحكم قبل الثورة من جهة اخرى، وأن سعيّد مازال يبحث عن عمق جذور المنظومات السياسية السابقة، وما حدث بعد ليلة 25 جويلية مجرد تقليم لأغصان إمتدت عشرة سنوات فقط، ولعلّ عمق جذور هذه المنظومات قد ظهر للعيان في مؤسسات القضاء والسلطة القضائية عموما، خاصة بما تتمتع به من نفوذ في المشهد العام، ممّا سيكون ذلك أول تهديد لما سيتم التأسيس له مستقبلا.

سياسة العدالة أم عدالة السياسة ، من منهما ستكون الطريق فعلا لإصلاح المشهد المشوّه لرأس الدولة من صراع يتجدّد بوجوه جديدة بين سلطه الثلاث، في خضم سنة جديدة حبلى بالمطالب الاجتماعية ورهانات على عودة النمو الاقتصادي لما يقارب نسقه المعهود، أم سيكون كل منهما مجرّد طريق آخر يؤدي إلى النفق المظلم الذي تسير فيه كل البلاد.