الواقع يمكنه أن يتغير في أية لحظة.. من سيء إلى أسوأ أو العكس تماماً, بضربة حظ يتبدل اتجاه الريح وتحبل الأشرعة , فينقشع الضباب وتشرق الشمس من جديد..(هناك) حتى وأنت تتقهقر, لن تخسر معركتك, طالما أنك (هنا) في  الداخل مازلت تحتفظ بالأمل وتشتعل بالمقاومة..
 الزهور هي لا شيء أكثر من أصباغ وألياف ومركَّبات عضوية, وأنت بسلطة الاستعارة الشعريَّة/ الفطريَّة التي ورثتها من جينات أسلافك في الغابات الغُفَّل.. تهبها جمالها وعنفوان دلالاتها كمفردة حيَّة في قاموس المشاعر و”الإتيكيت”..ياسيدي قد تُصاب برصاصةٍ طائشةٍ وأنت تتأهب للعودة من مخبز الحي الذي تسكنه حاملاً الخبز إلى أطفالك الرائعين فتصاب بشلل كامل في الأطراف..أو تمدَّ يدك من نافذة سيارتك لتداعب الهواء المنعش في يوم مشمس الصباح وأنت في طريقك إلى عملك المُمل فتمرُّ شظيةٌ حادةٌ بمضاء سكين قصابٍ محترفٍ وتقطع شرايينك المتدفقة بالدم الطازج والشهوات المؤجلة, وتجد نفسك على سرير الإنعاش في مستشفى حكومي سُرقت كل أجهزته, ونهبت محتوياته, ولم تصمد داخل جدرانه غير الصراصير والجرذان المترهِّلة, وبعض الأطباء الشباب الذين يتعاملون مع مهنة الطب كرُتبة اجتماعية تتيح لهم الوجاهة وتفريغ عقدة النقص على الناس أكثر من كونها عملاً إنسانياً نبيلاً قوامه التواضع والتضحية من أجل الآخرين..

لكنك في كل ذلك لا تسقط في غياهب اليأس ما دُمتَ متمسكاً بإيمانك القديم أن ما حصل وسيحصل ليس سوى نمطاً احتمالياً وحيداً ضمن باقة من الأنماط والاحتمالات الممكنة الحدوث .. لو أنك في ذلك الصباح أشعلتَ سيجارتك بعد الرشفة الأولى من فنجان قهوتك العربية الثقيلة بدلاً من إشعالها وأنت تستعد للدخول إلى الحمام لتخليص معدتك من محتوياتها البائتة.. الإذعان الوثوقي لما تفضَّل به الفلاسفة من “هيراقليطس” إلى “الهمالي جمعة” جاركم الأصم بإرادته المحضة  حول مبادئ الاستدلال للعثور على القوانين العامة في العلاقة بين العقل والمادة والإله, تلك التي يستمد منها القدر منطقه العجيب في رسم خططه..كفيل بحفظ توازنك أمام الضربات اليومية الموجعة, وزرع الطمأنينة في أركان قلبك  المتسامح.. 

كان العالم من حولك يمور بالصراعات والمؤامرات والخيانات والقتل والسحل والدم والاغتصاب والاختطاف والسرقة والمساومة, بينما ملامح وجهك تسبح في هدوء روحاني يحسدك عليه القديسون والشيوخ المرابطون في القرى والبلدات النائية من بلادك الحرة, كل ذلك لأنك بفضل موهبة خارقة خصتك بها السماء, قادر على إقامة جدار زجاجي سميك بينك وبين الخارج يعزل عنك نشاز الأقوال والأفعال, ويستدرجك إلى شاطئٍّ بعيدٍ مهجورٍ؛ حيث تتفرَّغ لصناعة صورك الرومانسية الساحرة لواقع موازٍ, ترعي فيه الأحلام والذئاب والخِراف معاً.. 

دعهم يستشيطون غيضاً ويفغرون أفواههم ذهولاً, وهم يسمعونك تردد لأزمتك الأثيرة “الخير جاي” مشفوعة بابتسامة عريضة تداري بها وجع المفاصل الذي ألمَّ بك جراء المداومة (السيزيفية) على الوقوف اليومي في طابور المصرف والمخبز ومصلحة الجوازات.. سيظنون بك الظنون, ويتهمونك مرَّة بموالاة الطابور الخامس, ومرَّة بالعتَهِ والسذاجة, وفي أحسن الأحوال سيقولون إنك مصابٌ بحالةٍ غير منطقية ولا واقعية من التفاؤل والأمل.. وستضحك في سرِّك من هذه التهم الغبية التي يرشقونك بها, فلا أنت عميلٌ للطابور الخامس ــ إذ تكفيك الطوابير المعتادة التي أدمنتها وأدمنتك ــ ولا أنت معتوهٌ أو ساذجٌ, ولا أنت مسكونٌ بأملٍ مخادعٍ.. لكن دعهم في غيِّهم يعمهون, ولا تفسر لهم ما لا يمكن تفسيره.. ثم من أين لك بالمقدرة والمعرفة الوافرة لتشرح باللغة العاجزة معجزتك الخارقة التي حصَّنتك من الفناء والتلاشي عبر العصور المريرة؛ وهي تطحن في مرورها الكارثي على هذه الأرض عظماءَ وملوكاً وإمبراطوريات وحضارات فتُحيلها إلى مجرد غبار في كتب التاريخ لتبقى أنت وحدك الخالد خلود الظلم والمعاناة والألم..

الآراء المشنورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة