يتذكر أولئك الذين نشأوا في جمهوريات الاتحاد السوفياتي الزمنَ الذي لم يكن فيه لذوي الإعاقات أي وجود. كان الاتحاد السوفياتي ذا حالةٍ خاصة، إذ يكاد المرء لا يرى مُطلقاً أيّ شخصٍ على كرسي متحرك، أو أحداً مِن ذوي الإعاقة البصرية. وببساطة، لم نكن نرى الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة في الشوارع. ولحقت بكينونة مستشفيات الأمراض النفسية سمعةٌ سيّئة على نطاق واسع، عندما رفعت إحدى هذه المؤسسات شعاراً ضخماً يقول: "الزعيم لينين معنا!"، مجاراةً منها لمعايير الدعاية الشيوعية آنذاك. ولا تذكر كتب التاريخ شيئاً عن مصير مدير ذلك المستشفى، ولكنّ مَن هُم على دراية بالواقع السوفياتي، وبكيانٍ كان يُعرف باسم "خابرات السوفيتي  " (كي جي بي)، قادرون على أن يتخيّلوا صورته بسهولة وهو يمضي مدّة عقوبته وراء جدرانٍ من نوعٍ آخر ...

بالعودة إلى موضوعنا الرئيسي، لم يكن هناك أشخاصٌ ذوو إعاقات في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية! أمرٌ غريب، أليس كذلك؟ هل يصعب تصديقه؟ حسناً، لا تصدق ذلك، وستكون على صواب. فلطالما كان هناك دوماً كثيرٌ من الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة. ومع ذلك، فقد عاشوا في عالمهم الموازي، وكانوا غير مرئيين كلياً تقريباً "للناس الطبيعيين"، في "المجتمع الطبيعي". لقد "سُجنوا بحكم الطبيعة" لأنّ المجتمع قد اختار عدم القبول بوجودهم. ولم تكن هناك تقريباً أي بنية تحتية تمكِّنهم من الخروج من شققهم ومنازلهم. فابتداءً من المؤسسات التعليمية، وأنظمة النقل العام، إلى دُور السينما، ووصولاً إلى المستشفيات (مع استثناءات قليلة جداً)، كان عالم "الأشخاص الطبيعيين" عبارة عن حصن لم يجرؤوا قط على اقتحامه. ومن بين الاكتشافات الكثيرة التي تجلّت لنا نحن السوفييت السابقين، بعد سقوط الستار الحديدي عند سفرنا إلى الغرب، أنّ الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة قادرون على أن يكونوا أفراداً نشِطين ومُنتجين للغاية في المجتمع. وتبيّن أنّ مصائرهم لم تكن خاضعة لمظاهر الشفقة المتعالية أو الأعمال الخيرية العرَضية، وإنما للتعامل باحترام حقيقي مع مَن شقّوا طريقهم في الحياة وصمدوا فيها على الرغم من الصعوبات الإضافية.

لماذا أكتب عن هذا الموضوع تحديداً؟ قبل بضعة أسابيع، خلال نقاشٍ دار بيني وبينمعالي الدكتور المهدي الأمين، وزير العمل والتأهيل، ومعالي السيّد بداد قنصو، وزير الحكم المحلي، اتفقنا على توحيد جهودنا لمعرفة كيفية تقديم الدعم اللازم للوزارات المعنية بهدف مساعدة المواطنين الليبيين من ذوي الإعاقات. ونحن نحضّر حالياً عدّة مبادرات، ونخطط للبدء بمبادرات صغيرة، آملين في تلقّي الدعم من عدّة جهات مَعنية رئيسية بناءً على نجاح تدخلاتنا الأولية. لقد كانت الشراكة المثمرة التي أبرمناها مع نظرائنا الحكوميين مصدرَ إلهامٍ كبير لنا حتى الآن، ومع شركائنا القلائل الآخرين، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني.

قد يستغرب البعض ذلك ويقول: "مهلاً، هل أنت فعلاً جادٌ في ما تقول؟! أمَعَ كل هذه المشاكل التي تمرّ بها ليبيا الآن، تأتي أنت لتتحدث عن الأشخاص ذوي الإعاقة؟! نعم، أنا جادٌ في ما أقول. وأجَل، أنا مُدركُ بشكلٍ مؤلم بديهيةَ القضايا الأخرى ذات الأهمية القصوى والضرورة الملحة التي تواجهها ليبيا. وحتى مع الأحداث المأساوية التي وقعت في الأسابيع الماضية والأرواح البريئة التي أُزهِقت بسبب أعمال العنف الغاشمة، أعتقد أننا بينما نحاول تقديم دعمنا لليبيا للتعامل مع بعض التحديات الأكثر حساسية، لا يسعنا استبعاد أولئك الضعفاء على نحو خاص، ممّن يعانون الأمرَّين، بل ويعيشون ظروفاً أصعب بكثير مما يواجهه المواطنون الليبيون العاديون في حياتهم اليومية. إنني أجدُ في هذا الأمر أحد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها أهداف التنمية المستدامة،ويتمثل جوهرها وقوتها في تمثيل القيم والأهداف التي يحفل لأمرها الناس العاديّون. وأنا مقتنع بأنّ ما نفعله هو الصواب - ليس فقط من أجل مَن نوليهم اهتمامنا، ولكن من أجل الصالح العام للمجتمع ككل.

يلتزمُ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في ليبيا بالعمل على دعم الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في دولة ليبيا، بما يشمل المداخل الميسّرة إلى مقرّات مكاتبنا في العاصمة طرابلس. هل عملنا مجرّد قطرة في محيط؟ ربما هو دون ذلك أيضاً. ولكن، ألا تتكوّن محيطات العالم من قطرات؟

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة