لقد جاءت مفردة (عقل الصحراء) عديد المرات في مجمل ما تناولته تحت عنوان (بهدوء ... عن جائحة التصّحير والتصحّر والصحراء) . فبهذه المفردة كنت أشير الى الاداة التى تبلور عبرها العقل الاجتماعى لصحراء جنوب وشرق المتوسط . ذلك العقل الذي شكّلته وصاغته الظروف البيئية الصعبة التي تكتنف في الغالب بل ودائما تلك الصحراء، حيث الشُح في موارد الحياة الضرورية والندرة في الكلأ والماء حدّ العدم في الغالب، وإن شئتم وعلى الدوام. ففي هذه الظروف القاسية صِيغ وشُكل العقل الاجتماعي بالصحراء ليكون في حالة استنفار دائم في مواجهة الموت والتلاشي من على وجه الحياة. 

 ففى بيئة تكتنفها كل هذه المشقّة ليس من فرصة للكائن الاجتماعي ان يبقى حيا ما لم يُصغ ويُبرمج كيانه بحيثيات تُمكنه من عبور التصحير والتصحر والصحراء فليس ثمة وجود لخيار ثالث في هذه البيئة خارج ان تكون غازيا أو مغّزوا، غانما او غنيمة بين فكّي الآخر. 

 فمن صلب هذه البيئة القاسية جاءت الكيانات الاجتماعية المغلقة والمنغلقة على نفسها (القبيلة) . والتى يؤتمن بها وبداخلها للكائن الاجتماعي قدر من القوة ومن ثم الشعور بحد ادنى من الامن في داخل محيط واسع يرى في الآخر خطرا داهما او فرصة سانحة للفوز بغنيمة محتملة ووجبة دسمة وفي أحسن الأحوال منافس غير مرغوب فيه . 

 فبيئة الوفرة والسعة واليسر في تقديري ستصوغ وتنتج عقلا اجتماعيا مختلفا باعتبارها بيئة لم تعان الشح والندرة في ضروريات الحياة . فقد ظهر هذا الفارق مُبكرا حتى في الصياغات السماوية التى جاءت كرسالات لأهل الكتاب والتى تناولت هذا الكائن الاجتماعى في بيئات مختلفة . فسنجد الصياغات التي تتناول هذا الكائن الاجتماعي في رسالة المسيح عليه السلام . ذات ايقاع يتوافق مع بيئة الوفرة حيث فضاء رسالته في الارض التي تفيض لبنا وعسلا في حين نجد رسالة الاسلام جاءت بإيقاع يتوافق مع بيئة الشح والندرة حيث جغرافية الصحراء القاسية . 

كنت أحاول أن أصل بالقول بأنه في بيئة تعمّها الوفرة واليسر والسعة يكون من الخطأ الظاهر الاجتهاد في برّمجة العقل الاجتماعي. الذي يستوطنها بمفردات صحراء البؤس والسعي نحو استدعاء وحضور تلك المفردات العجفاء لتضل ماثلة وعلى نحو دائم في حياة الناس ففي ذلك خطر على الكائن الاجتماعي وبيئة الوفرة التى يسّتوطنها لأن في ذلك استدعاء لثقافة الغنيمة في بيئة ليست بيئتها وهو عمل لا يقل في شيء عن محاولة لتجريف الوفرة والسعة واليسر وإحلال لصحراء التيّه وتوّطينها كبديل ملعون ليعصف بحياة الناس. 

وأستطيع القول بأن كل ما جاء في ما سبق لا يقف عند عقل الصحراء وفقط بل نستطيع سحبه على كل عقل مغلق وان تباينت واختلفت المرتكزات التي وبالاتكاء عليها تمت صياغة هذا العقل المغلق وبرمجته وجعلت لآلياته مرجعيات يسّتلهمها. وأثناء تفاعله مع محيطة القريب والبعيد ومع اختلاف هذه المرتكزات قد يظهر هذا العقل المغلق أمامنا وهو يتلفّع بلفافة من قماش تُغطى من الشمس الهاجرة التي تلهب صحراءه قيضا، او قد يأتي هذا العقل في وجهه الآخر وهو مُتزمّل عمامة افغانية وبيده سوط في واحد من المربعات القاتمة لخط تدرجات لونه الواحد . 

واعتقد بعد كل هذا أن التأزم الليبي يُراد له من خلال الإصرار على تمريره بين أيادي مخرجات الصخيرات وعرّابها ان ينتهي ويسّتقر الى الثنائية التي جاءت بها مفردات الصورة المرسومة اعلاه والتي تستطيع تلك المخرجات جر الليبيين الى محاكاة النموذج الأفغاني في ثنائيته (لوياجوركا- طلبان)، ولكن لن يمكنه بهذا التأسيس لوطن يُدار بمؤسسات تجد وتجتهد وتعمل على انزال مفهوم دولة المواطنة الى واقعهم المضطرب لان ذلك وبمختصر القول لا ينهض إلا على عقل منفتح يرى في الآخر شريك لا على عقل يتغذى على ثقافة الغنيمة او آخر يرى في غيره فئة ضالة تحتاج الهداية. وأعيد لألخص أنه لا خيار امام الليبيين للوصول الى ذلك إلا عبر بوابة الجغرافية المحلية والمسندة إقليميا. 

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة