بداية: كثيرون سيقولون هذا لا يليق بك ولا تجوز على الميت (البعض يقول المسلم)الا  الرحمة وأذكروا محاسن موتاكم ولا شماته في الموت...الخ. الكليشيهات التي يرددها اغلبنا دون تمعن فيها ولا حتى فهمها! وفق تلك المعزوفات لا يجوز ابدا كتابة التاريخ الا أذ أمتلئت صفحاته بمحاسن الملك أدريس والقذافي وصدام وحسني مبارك وحتى هيرودوث رحمهم الله! ووفق هذا المنطق لا يجوز أبدا الحديث عن محمود جبريل الا اذا أكثرنا من محاسنه على حساب سواها! هذا خطأ كبير!
أيها القارئ العزيز:  وقبل أن تقول (أستغفر الله) هذا محمود جبريل وليس المواطن مخلوف الذي توفاه الله ولم نسمع حتى به! هذا محمود جبريل الذي لعب دورا مهما في رسم حاضر ليبيا وملايينها الستة وربما مستقبلها ومستقبل احفادهم أيضا! هذا رجل خرج علينا أولا كمفكر ثم مدرب (ولقاءي الأول به تم في هذا الإطار في هدرزة!). هذا رجل أثره محسوس في حياتي وحياة الليبيين ولهذا لا يمكن أبدا الا نقذه والا لا داعي لأي كلام عن اي حدث ولا داعي لكتابة التاريخ ولا حتى فهم أحداثه! كيف يمر موته هكذا؟
لا تعلقوا ولا تردوا بأي من تلك المقولات المحنطة لأنها خارج الموضوع وأن أخدنا بها فمعناها أن سعي عائلة المقرحي الي تبرئته بعد موته عبث وكفر وسعي عائلة القذافي لأسترداد جثمانه خطئية وسعي عائلة صدام لتبرئته من الكثير شرك وعدم ذكر محاسن هتلر وموسوليني وبينوشيه وفرانكوا وماو موبقات! عدم ذكر محاسن البشر ومساؤيهم ضد ناموس الحياة وضد العقل وضد الأنسانية وضد العلم وضد الأيمان الذي من أهم دروسه أستلهام التجارب والدروس لتكرارها أو تجنبها حسب فائدتها لمن أراد!
محمود جبريل كما أسلفت يستحق الذكر بل والكثير منه لأنه ليس مجرد أنسان عادي مات في مكان ما من العالم! لا! هذا رجل ثقل ميزانه وحين يموت علينا أن نتذكره بعقلية نقدية  تسمح بتقييم تجربته ووفق هذا المنطق أنا أكتب عنه كما كتبت عن سواه مع العلم أنني لا أعرفه ولم ألتقيه الا مرة واحدة مع أنني عملت كعضو لجنة في مجلس الأنماء الأقتصادي والأجتماعي الذي ترأسه وكانت اللجنة مكلفة بمهمة محددة أنتهت في وقت محدد ولم أره يومها الا مرة واحدة بعد لقاءئ به قبل ذلك بسنوات!
سيذكر الليبيون الرجل وفق توجهاتهم السياسية المسبقة وبالتالي يحكمون عليه أحكاما مسبقة وأحيانا غير قابلة للنقاش فكيف لك أن تناقش من يراه خائنا وعميلا مسبقا ومن يراه وطنيا معجونا بماء الوطن وترابه؟ المشكلة هنا الدكر النقدي يغيب نهائيا تقريبا ويتحول اي حديث عنه الي جدل فارغ ينتهي بالشتيمة وما الي ذلك خاصة في هذا الفضاء! فمثلا/ عدد لابأس به من الليبيين رقصوا في الشوارع حين أُغتيل القذافي وعدد لابأس به منهم لا زال حتى اليوم يسبق أسمه بكلمة "المقبور" في تناقض صارخ مع السنة الأسلامية في قبر الموتى وتناقض كلي مع كل الجمل التي وردت أعلاه في مقام دكر الموتى! ولكن قلة منهم من يذكر القذافي منتقذا اياه موضوعيا كرجل لعب دورا جوهريا ومهما جدا في حياة الليبيين بل والعالم أيضا وينتهي الدكر بأحد تلك الكليشيهات السابقة دون نتيجة موضوعية تقييمة للتجربة وصاحبها رغم أمتدادها لأربعة عقود!
ولهذا أنا ضد كل تلك الجمل على جمالها ولا أعتبرها واجبة التطبيق الا في موتي أنا أو أي أنسان عادي لا دور له في الشأن العام ولا في كتابة التاريخ حينها يعود أمر نقده الي أهله ودويه وليس للعامة!
ووفق هذا المنطق أكتب عن الرجل: محمود جبريل ضل الطريق أمام وهج السلطة وتعثر في تلابيبها وهو يكاد يمسك بها! يا للمفارقة! ونتيجة أن وهج السلطة كـأضوائها مبهرة وتشوش النظر والفكر فكان ان شوشت فكر محمود جبريل الذي لولا بقعة الضوء تلك لربما حظي بأجماع أكبر عدد من الليبيين يعجز سواه عن تحقيقه! ولكن الرجل لم يكن صادقا في فكره أنما اراده مطية للدور السياسي والي السلطة ورئاسة ليبيا دون سواها! وهذة التجربة تمثل مثالا صارخا ودرسا مهما عن كيفية تورط "المفكر" في السياسة. فنقاء الأول لا يقبل بدنس الثانية لأن السياسة عمل مدنس خاصة في بلد مثل ليبيا! عمل أقرب الي تنظيف المجاري منه الي مجالسة الطلبة والواعظين! ولأن الدنس السياسي جزء من المستنقع السياسي (في اي مكان في العالم وأن أختلفت درجة القذارة!) وجد محمود جبريل أن أحلام اليبيين قابلة للتحقق ببعض الأكاذيب التي يمكن صياغتها بمهارة لا تنقصه ويمكن حينها ان يركبها الي حيث يريد: رئاسة الوزارة/ رئاسة الجمهورية! مشكلة جبريل الأخري أنه أحس أن العدد الأكبر من الليبيين في عامهم الأغبر (2011) ينظرون اليه،دون من حوله ودون بقية الرهط من عبدالجليل الي شمام، كممثل لهم ! كانت العامة (خاصة المؤيدة للسيرك حينها) ترى فيه العقل والعمق والخلفية والرؤية والمستقبل وهو لم يخيب ظنهم الا حين جاءت لحظة الحقيقة وبرز السياسي فيه الا ليتعثر في لعبة السياسة لأنها ليست مشربه ولا ميله من البداية ولكن اهواء الرجال عوالما وتقلبها يجعلها مقابرا لهم وان بقوا أحياء! فهو بداء كرجل أعمال وأنتهي كمهرج للأسف!
وسائل جبريل الي هدفه تنوعت: في أوربا وأمريكا يتحدث لغة العلم والأرقام التي يفهمها جيدا مستمعيه أما عندنا فيتحدث لغة الدجل والزيف والكذب والتناقض لأنه لا ينسى أننا ننسى بسرعة ولا نقرا حتى قبل أن ننام! والمشكلة الأكبر هي أن هذا المنهج الذي أرتضاه لنفسه قلص منه الفكر لصالح السياسة التي لها متطلبات مختلفة بل وأحيانا كثيرة متناقضة معه كليا! ولهذا لم يجد اي غضاضة في أن يكذب قي وقائع محددة يسهل كشفها وبيان الكذب فيها ومن امثلة ذلك قصص من قبيل علاقة النظام بالقاعدة وأغتصاب النساء وتدمير النفط ...الخ!وحين يحاول تبرير الكذب يضطر الي قول ما لا يصدقه هو نفسه! فمثلا برر قصة الأغتصاب بالقول انما هي رد على النظام لأنه أتهمه (كامل شلة المجلس) بالخيانة! ولكن يا أخي النظام ومعمر بالذات لم يسمي أحدا بالآسم ومن عناهم معروفين كأفراد ومحصورين كعدد وليسوا جمهرة ولا حتى مئات! أنت تتهم جيش كامل ونساء ليبيا بالكامل! وهذا النوع من الأخطاء شائع بين من يمتطون جواد السياسة ويحاولون أقتياده بلجام الفكر!
ربما كان محمود جبريل رجل له مأثر شتى وربما كان كريما معطاءا محبا للخير..الخ. الا ان هذا كله يذكره دويه وأصدقائه وربما يتردد في سرادق عزاءه (وأن عز ذلك في زمن كورونا) ولكن لا يتوجب على الناقذ والكاتب الموضوعي ان يذكره الا متى كتب التاريخ وليس في كلمة نعي محددة كهذة!
محمود جبريل وقع فريسة وهم السلطة وأبهرته بهرجتها فاخطأ مرتين: مرة حين قبل الميكافيلية الرخيصة من اجلها ومرة حين أرتضاها هدفا لا حياد عنه! وهذا الحال جعله يتناقض يوميا بين كينونته الفكرية التي يدعيها وتطلعاته السياسية التي يلهث ورائها!
طبعا هذا لا يلغي أيجابياته ولكنني هنا أكتب في مساحة محددة ولجمهور عجول ولكنني لست مجبرا على أنكارها ولهذا أشير لها وحين اكتب سيرته ربما حينها سأجد لها المساحة الكافية!
ولعله من المفارقات ان يقبل رجل بحجمه وثقله وتقبّل العالم له (في عامنا ذاك) ان يقوم بدور مخبر للجنايات الدولية بأن تكبد شخصيا مشاق السفر والمخاطر الأمنية ليقف بنفسه على جثة رجل ما كان يوما خصيما له (وأن رأه كذلك) لينقل الي أوكامبو المرتشي حقيقة أن الجثة هي فعلا للقذافي! سابقة لم يسجلها التاريح السياسي ولا حتى تاريخ الأغتيالات منذ الحجاج الثقفي الذي كان كثيرا ما يأتي برؤوس ضحاياه الي بلاط بني أمية!
تلك هي الشماتة في الموت الذي لا شماتة فيه أنسانيا وليس سياسيا!
الذين راهنوا عليه مستقبلا ربما خاب رهانهم بموته والذين لم يعولوا عليه ربما رأوا في موته نقص في عدد الأعداء السياسيين لا غير!
وأكبر فشل له أنه لم يخلق كادرا قياديا للتحالف الذي يٌحسب له أنه أوجده من العدم في أرض سياسية عدم! وهذة وحدها تٌحتسب ضده وضد كل ما بشر به حين كان مدربا محترفا ومخططا أستراتيجيا على الأقل حسب قوله هو عن نفسهَ!
وأخيرا: قدسية الموت لا تعني تقديس ضحاياه بل تعني الوقوف أمامه كلحظة فارقة بين الكينونة وانعدامها. بين الحياة وانتهاءها!
رحمه الله ورحمنا جميعا!

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة