مصطفى حفيظ

يثير التقارب الجزائري- الصيني انزعاج بعض الأطراف، التي تتنافس مع الصين على التغلغل في أفريقيا من بوابة الجزائر، في مقدمتها فرنسا. ويبدو أنّ الجزائر قد فهمت منذ سقوط نظام بوتفليقة أن مصلحتها تتمثل في تنويع شراكتها مع أكثر من طرف، وهو ما جعلها تختار محور الشرق، الذي يضمّ تركيا وروسيا والصين وقطر، وتنضمّ لما عرف بمبادرة طريق الحرير. فما سرّ القلق الفرنسي من الشراكة الصينية-الجزائرية؟ وما الذي يميّز العلاقات الصينية- الجزائرية، لدرجة تمكّن الصين من التحول إلى أكبر مستثمر في الجزائر؟  

منذ أيام زار وزير الخارجية ومستشار الدولة الصيني وانغ يي الجزائر، وهي زيارة مهمة للصين، بحكم سعيها الدائم إلى تعزيز علاقات الصداقة والتعاون القائمة بين البلدين المرتبطين باتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة، التي تم إبرامها سنة 2014. وتسجل الصين حضورها في المنطقة المغاربية وأفريقيا في عزّ التفشي الكبير لفيروس كورونا. الزيارة مهمة، أيضا، للجزائر، التي تريد أن تؤكد على حضورها من جديد في الساحة الدولية والإقليمية، خاصة في الوقت الراهن، الذي تعيش فيه المنطقة وضعا استثنائيا جراء الأزمة الليبية، من جهة، والتوتر بين المغرب والجزائر بسبب مسألة الصحراء الغربية، من جهة ثانية. وتبحث الجزائر، من خلال شراكتها القوية مع الصين، عن التأكيد على خروجها من دائرة النفوذ الفرنسي، الذي كان مسيطرا خلال عهدة الرئيس بوتفليقة. فمنذ أن وقّعت الجزائر اتفاق الشراكة الإستراتيجية الشاملة مع الصين في 2014 بدأ الحضور الصيني في الجزائر يُنافس الحضور الفرنسي. ثم تجاوزه ليقوّض ذلك النفوذ، الذي ظلّت تتمتع به فرنسا، خاصة مع الاستثمارات المتحصلة عليها في ظل حكم النظام الأسبق لبوتفليقة. والآن، بعد إعلان الجزائر عن دخولها الفعلي ضمن اتفاقية طريق الحرير تؤكد هذا الخيار. ولعل إعلان الجزائر الصريح عن خياراتها الاستراتيجية بتنويع شراكاتها خارج الاتحاد الأوروبي وفرنسا، بالتحديد، بتوقيع وتعزيز اتفاقات شراكة مع روسيا، تركيا، قطر، الامارات، والصين هو ما زاد غضب تلك الأطراف، التي تنزعج من التوجهات الجديدة للجزائر، التي تنفتح أكثر على محور الشرق، وتبحث عن دعم لمواقفها الدولية والإقليمية، خاصة في ما تعلق بالقضايا المساندة لها وتراها قضايا عادلة كالقضية الفلسطينية والقضية الصحراوية. إذن، هذه الزيارة جاءت في ظرف تحتاج الجزائر فيه إلى سند قوّي لموقفها الداعم لقرارات الأمم المتحدة بشأن القضية الصحراوية، خاصة بعد التوتر الحاصل حاليا مع جارتها المغرب بسبب هذا الموضوع. وتؤكد الصين على وقوفها مع الجزائر في مثل هذه القضايا، وهو ما يتضح من خلال تصريح الوزير الصيني عند لقائه بنظيره الجزائري، حيث قال إنّ بلاده تتوافق وتقاسم الجزائر الرؤى في ما يتعلق بالمسائل السياسية والأزمات الدولية، وأنّ هناك تطابقا في وجهات النظر في معظم هذه المسائل وتقارب وجهات النظر في عدة مسائل أخرى. ومن بين المسائل، التي تلقى الجزائر دعما صينيا لمواقفها فيها، الأزمة في الشرق الأوسط  والقضية الفلسطينية خاصة. ومعروف أن موقف الجزائر أزعج العديد من الأطراف في المنطقة، خاصة بعد تلك التصريحات التي أطلقها الرئيس الجزائري بخصوص التطبيع مع إسرائيل. ومهما يكن، فإنّ الجزائر في الوقت الراهن تبحث عن مخرج جديد لدبلوماسيتها، التي عاشت أزمة وانغلقت على نفسها بسبب مواقفها الأخيرة من عدة قضايا وتراجع دورها بعد الحراك الشعبي في 2019 وسقوط نظام بوتفليقة.

لماذا تنزعج فرنسا من التقارب الصيني- الجزائري؟

يشكّل التقارب الصيني-الجزائري الحالي ازعاجا للكثير من الأطراف، التي لا تريد للصين مزيدا من التمدد نحو أفريقيا، خاصة فرنسا التي ترى في اتفاق الشراكة بين الصين والجزائر تهديدا لمصالحها في أفريقيا عبر الجزائر. لكن في وضع إقليمي متوتّر، كالذي تعيشه المنطقة المغاربية ودول الساحل بالتحديد، تحاول الجزائر من خلال تعزيز شراكتها مع الصين تأكيد حضورها من جديد كفاعل في الساحة الدولية والإقليمية. والأكيد، أنّها تريد الانفتاح على السوق الأفريقية، مثلما تريد الصين ذلك. ووفق التصور الجزائري، الذي أفصح عنه الرئيس تبّون في أكثر من تصريح صحفي، فإنّ الشراكة التي تريدها الجزائر هي تلك التي تسرّع التنمية وتخلق الثروة وتبنى على نقل الخبرة والتكنولوجيا الى البلاد، وليست تلك القائمة على الاستغلال دون تنمية. لذلك، ترى في الانضمام إلى اتفاقية طريق الحرير مع الصين أنها الخطوة الأنسب لسياستها الاقتصادية، من خلال الانفتاح على مزيد من الاستثمارات الصينية. وسيكون مشروع إنجاز أكبر ميناء في أفريقيا والبحر المتوسط بشرشال بولاية تيبازة أحد هذه المشاريع، التي تدخل ضمن مبادرة طريق الحرير، وقد انطلقت به الأشغال فعلا. وحسب المعطيات المتوفرة، فإنّ هذا المشروع يعدّ رئة التنمية المحلية والأفريقية بحسب المسؤولين الجزائريين، بتكلفة 6 مليارات دولار على أن ينجز في ظرف سبع سنوات على مراحل. وكان المشروع قد توقّف لمدة سبع سنوات. لكن الرئيس الحالي أعاده من جديد، إذ أكد بأنّ هذا الميناء "ميناء الحمدانية" في شرشال يعدّ مشروع القرن لأنّه ذو بعد استراتيجي هدفه تخطّي حدود الجزائر من أجل فكّ عزلة البلدان الأفريقية التي ليست لها منافذ بحرية. هذا المشروع، الذي تعوّل عليه الجزائر لتحقيق نمو اقتصادي كبير، سيقلب الموازين بالنسبة للشركاء التقليديين للجزائر، أي الاتحاد الأوروبي وفرنسا بالتحديد. وسيحوّل الجزائر إلى قطب تجاري وصناعي عالمي، بغضّ النظر عن تحوّلها عند اكتمال المشروع إلى بوابة اقتصادية جزائرية صينية نحو أفريقيا. هذه الشراكة هي التي لا تريدها فرنسا وبقية الأطراف، التي تنزعج من التقارب الصيني الجزائري. فهذا الانفتاح على الشريك الصيني في أكثر من مجال لم يزعج فرنسا فقط. بل قوّض وجودها وتسبب في تراجعها عن كونها صاحبة النفوذ في الجزائر، لأنها حصلت فعلا على مشاريع ضخمة في عهدة بوتفليقة بعد أن فتح لها الباب على مصراعيه. فهو من أنقذ العديد من الشركات الفرنسية، التي كانت على أهبة الإفلاس، ومنحها مشاريع في الجزائر. لكن اليوم، مع سقوط هذا النظام، تعوّل الجزائر بحزم، على ما يبدو، على إبعاد الشركات الفرنسية من الواجهة، وقد بدأت السلطات في الجزائر فعلا بالانقلاب على أكثر من شركة فرنسية تبيّن سوء تسييرها للمشاريع الموكلة لها، وفكّت ارتباطها مع بعض الشركات كشركة تسيير ميترو الجزائر المنتهى عقدها "راتيبي باريس" في أكتوبر/تشرين الأول 2020، ورفضت السلطات الجزائرية تجديد عقدها، وهو ما اعتبر طردا بشكل غير مباشر، ونفس الشيء حصل مع شركة "سيال" الفرنسية لتسيير المياه في تيبازة والعاصمة. إن الجزائر بدأت فعلا في تقويض النفوذ الفرنسي من خلال التخلي عن الشراكة مع الشركات الفرنسية، بينما تزايد حجم الحضور الاقتصادي الصيني في الجزائر. وكانت فرنسا قد عبّرت في كثير من الأحيان بشكل ضمني عن انزعاجها من هذا التقارب الجزائري-الصيني، خاصة بعد توقيع اتفاقية الشراكة وازدياد حجم الاستثمارات الصينية في الجزائر. لكن الأكثر ازعاجا لها كان دخول الجزائر بشكل فعلي في اتفاقية طريق الحرير، التي تعني بالنسبة لفرنسا التوغل الصيني في دول الساحل ووسط أفريقيا وتقويض دورها هناك. وسبق أن حدث صدام دبلوماسي بين فرنسا والجزائر العام الماضي 2020 بسبب الصين عندما تهجّم المحلل السياسي الفرنسي فرانسيس غيلاس على الجزائر وجيشها عبر القناة الفرنسية العمومية فرنس 24 بالفرنسية، إذ أن الموضوع متعلق بالمساعدات الطبية الصينية والوفد الطبي الصيني الواصل إلى الجزائر. وادعى أنّ هذه المساعدات تم نقلها حصريا لمستشفى عين النعجة العسكري بالعاصمة، الذي يتداوى فيه ضباط وعناصر الجيش. وكان يتحدث لهذه القناة بصيغة المتأكد من المعلومات، التي أوردها عن الجيش بشأن المعدات الطبية المرسلة من الصين كهبة للجزائر لمكافحة جائحة كورونا. ورأينا كيف تحول ذلك إلى أزمة دبلوماسية بين البلدين، حيث استدعت الجزائر السفير الفرنسي للاحتجاج رسميا على هذا التهجم على مؤسستي الرئاسة والجيش عبر قناة عمومية معروف قربها من جهاز الاستخبارات الفرنسية، وأبلغت الخارجية الجزائرية احتجاجها الرسمي وقررت مقاضاة القناة الفرنسية. وبالفعل، مُنعت القناة من التصوير في الجزائر بعد تلك الحادثة. والحقيقة وراء هذه الأزمة هي  القلق الفرنسي الزائد من مستوى التقارب الجزائري- الصيني، وخلفه التمدد الصيني في أفريقيا، خاصة بعد دخول الجزائر بشكل فعلي في اتفاقية طريق الحرير، التي تعني بالنسبة لفرنسا التوغل الصيني في دول الساحل ووسط أفريقيا وتقويض دورها هناك. وفي واقع الأمر، فإنّ رأي هذا المحلل السياسي تعبير عن انزعاج فرنسي رسمي غير معلن من التقارب الصيني الجزائري، الذي تعزز أكثر بعد سنة 2013، وهي السنة التي استطاعت الصين أن تحتل الصدارة فيها كأكبر متعامل اقتصادي مع الجزائر، مقابل تراجع فرنسا، التي كانت قبل ذلك تحتل المركز الأول. ولا بأس من الإشارة هنا إلى أنّه ومنذ 2013 بدأت فرنسا تشعر بتراجع دورها كشريك اقتصادي مهم للجزائر، حيث احتلت الصين منذ تلك السنة مركزا مهما ونالت حصة الأسد في نسبة الاستثمارات، التي حظيت بها في الجزائر، وكذلك حجم التبادل التجاري الصيني الجزائري. التمدد الصيني في دول الساحل وفي القارة الأفريقية، عموما، التي كانت سوقا لفرنسا على اعتبار أنها مستعمراتها القديمة، أغضب فرنسا وأقلها. فلا ننسى أن هذه الدول تنتمي في معظمها إلى المنظمة الفرنكوفونية، وأن فرنسا كثيرا ما تدخلت في الشؤون الداخلية لمستعمراتها السابقة هذه.

ما الذي يميّز العلاقات الصينية-الجزائرية؟

لا يمكن فهم سرّ الحضور الصيني القوّي في الجزائر في الوقت الراهن إلا بالبحث في جذور العلاقات الصينية-الجزائرية، التي تعود الى ما قبل الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي. كانت الصين قد أعلنت اعترافها بالحكومة المؤقتة الجزائرية في 1958، وهي من ضمن الدول السباقة المعترفة باستقلال الجزائر. وتوطدت العلاقات الجزائرية الصينية أكثر بعد الدور الذي لعبته الجزائر عندما صوّتت لصالح استعادة الصين لمقعدها الشرعي في الأمم المتحدة عام 1971. ففي 25 أكتوبر من عام 1971، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 26 قرارا ينصّ على استعادة جمهورية الصين الشعبية مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة والاعتراف بممثل حكومتها، باعتباره الممثل الشرعي الوحيد للصين في الأمم المتحدة. وكانت الجزائر من 13 دولة عربية صوّتت لصالح القرار. هذا الموقف عزّز العلاقات بين البلدين، حيث وقّع البلدان العديد من اتفاقيات التعاون والتبادل في مجالات عدّة. 

والآن تتعاون الجزائر والصين في عدة مجالات سياسية، اقتصادية، عسكرية وثقافية، إذ تعزز هذا التعاون بتوقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة في ماي 2014. وعرفت هذه العلاقات الاقتصادية الجزائرية-الصينية تطورا ملحوظا، خاصة في القرن 21، حيث أصبحت الصين شريكا اقتصاديا وحليفا استراتيجيا مهما بالنسبة للجزائر، ناهيك عن تحول الجزائر إلى سوق للسلع الصينية. فتجاوزت بذلك أهم الشركاء الأوروبيين ومن أبرزهم فرنسا، التي كانت تحتل المركز الأول في حجم الاستثمارات في الجزائر. وبلغة الأرقام، في عام 2017، صدّرت الصين للجزائر ما قيمته 8.31 مليار دولار أمريكي من السلع بنسبة 18.1 بالمائة من مجمل واردات الجزائر، التي فاقت 45 مليار دولار، بحسب إحصائيات الجمارك الجزائرية. وفي 2018 وقعت الجزائر على مذكرة تفاهم مع الصين تتعلق بالتعاون في إطار مبادرة الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن 21، وهي الاتفاقية التي أقلقت فرنسا كما أسلفنا الذكر، بحكم أنها كانت الشريك الإستراتيجي الأول للجزائر إلى غاية 2013. يشار، أيضا، إلى أنّ الجزائر تحولت سنة 2014 إلى أكبر سوق للاستثمارات الصينية في مجال البنية التحتية في أفريقيا بعد دولة نيجيريا، فقد حصلت الشركات الصينية على عقود استثمار بقيمة 22 مليار دولار بين سنوات 2005 و2016. ولا تزال الشركات الصينية في مجال البناء تشتغل لحد الآن، حيث أوكلت لها أغلب مشاريع وكالة عدل للسكن. وهناك أيضا التعاون الطبي الصيني-الجزائري، حيث كانت الصين قد أرسلت أول فريق طبي للجزائر سنة 1963 ثم توالت المساعدات من هذا الجانب بإرسال 21 فريقا طبيا عمل فيها قرابة 3 آلاف شخص من أطباء وممرضين، في إطار دعم المجال الطبي الجزائري. ونفس الشيء فعلته الصين عندما تعرضت الجزائر إلى زلزال 2003، حيث أرسلت الصين فرق إغاثة طبية للمساعدة. 

مكافحة كورونا والمساعدات الطبية الصينية لأفريقيا.

تكاد الصين تقوّض الوجود الأوروبي والأمريكي في أفريقيا من خلال تمددها الناعم في القارة عبر استثماراتها الكبرى في عدة بلدان إفريقية، خاصة في مجالات الإنشاءات والطرقات وتوليد الكهرباء. فضلا عن المبادلات التجارية بينها وبين دول أفريقية معروفة بكونها مستعمرات فرنسية سابقة، بالأخص. وتخشى فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من هذا التمدد الصيني، الذي ازداد اتساعا مع جائحة كورونا، والتي يبدو أن الصين هي البلد الأكثر استفادة منها. فمنذ بداية انتشار هذه الجائحة في أفريقيا سارعت جمهورية الصين الشعبية الى إرسال هبّات ومساعدات طبّية الى بلدان القارة الأفريقية. فحسب وكالة شينخوا للأنباء (الصينية)، فإنّ الصين أرسلت في أبريل/نيسان 2020 دفعة من الإمدادات الطبية  الضخمة الممنوحة إلى 12 دولة ومنطقة إفريقية. والآن، بعد اكتشاف اللقاح ضد فيروس كوفيد 19 في أكثر من بلد، تريد الصين أن تكون المنقذ بالنسبة للبلدان الأفريقية، عكس الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي لا تكفيها الجرعات المنتجة لشعوبها. إذن، دخلت الصين على الخط، ووعدت بتوفير اللقاح لجزء كبير من الأفارقة وإنتاجه إفريقيا. وكان الرئيس الصيني قد أكّد في القمة الصينية الأفريقية الأخيرة في 2020 أن الدول الأفريقية ستستفيد من اللقاح الصيني بمجرد البدء في إنتاجه. وهذا سيحسب لصالح الصين في المستقبل، حيث سيزيد من نفوذها الاقتصادي في أفريقيا عكس الأوروبيين، الذين تخلوا عن الأفارقة في عزّ حاجتهم للقاح. والمعروف أن الصين والغرب يتنافسان على القارة السمراء من أجل الاستحواذ على أكبر قدر من الاستثمارات فيها. لكن يبدو أن الصين، التي ساعدتها ظروف جائحة كورونا، ستزيد من مشاريعها مستقبلا بما أنّها وقفت مع الأفارقة في هذه الظروف.