مصطفى حفيظ

بعد قطع علاقاتها مع المغرب، ثم غلق مجالها الجويّ في وجه الطيران الحربي الفرنسي نحو مالي، واستمرار سجالها مع فرنسا بسبب ملف الذاكرة، تكون الجزائر قد رسمت عهدا جديدا من السياسة الخارجية لم تعرفه البلاد في زمن حكومات بوتفليقة السابقة، نرى اليوم كيف تتحول تدريجيا نحو الجنوب، نحو القارة السمراء، ديبلوماسيا واقتصاديا، ولعل أنبوب الغاز العابر من النيجر إلى نيجيريا، هو أحد أبرز مظاهر هذا التحوّل الجزائري للاستثمار والتوغّل افريقيا، بحثا عن شراكات جديدة في إطار التكامل الاقتصادي الافريقي، والسؤال الأهم هنا هو: هل قضت السلطة الجديدة بعد سقوط نظام بوتفليقة على ما تبقى من نفوذ فرنسي اقتصادي في الجزائر؟ ألا يعدّ تنويع شراكتها مع أكثر من طرف، والاتجاه جنوبا نحو افريقيا كقوة إقليمية واقتصادية ضربة قاضية لفرنسا؟

ما يزال ملف الذاكرة يوتّر العلاقات بين فرنسا والجزائر برغم محاولات تلميع فرنسا لصورتها والتقليل من فداحة تصريحات ماكرون الاستفزازية الأخيرة في حق الجزائر وتاريخها وسيادتها، فمنذ أيام حلت ذكرى الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، وهو تاريخ اندلاع ثورة التحرير الجزائرية التي دامت سبع سنوات وانتهت باستقلال الجزائر في الخامس من يوليو/تمّوز 1962، وسط استمرار هذا السجال الذي أخذ يتصاعد بعد إصرار الجزائر على موقفها الرافض للرؤية الفرنسية لملف الذاكرة، وهو الملف الذي يتناول فترة استعمار فرنسا للجزائر طيلة 132 سنة.

ففرنسا تكابر وتتفاخر بماضيها الاستعماري وتمجّده، وتريد علاقات شراكة قوية مع الجزائر بعيدا عن الذاكرة، وتتهرّب من تقديم تعويضات للضحايا، بينما ترفض الجزائر تخطي ملف الذاكرة في علاقاتها مع فرنسا، وترى بأن أي بناء لعلاقات قوية مع مستعمر الأمس لا يكون إلا بتقديم الاعتذار والاعتراف بهذه الجرائم مع التعويض، ودوما يسممّ هذا الملف تطور العلاقات، التي عرفت مؤخرا تراجعا ملحوظا، لدرجة استدعاء الجزائر لسفيرها في باريس والاحتجاج رسميا على تلك الاستفزازات التي تضمنتها تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المشككة في وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر.

تعود ذكرى ثورة نوفمبر إذن، وسط تغيّرات جيوسياسية، سياسية، دبلوماسية وحتى اقتصادية تشهدها الجزائر في محيطها المغاربي، الإقليمي والدولي، ويُمكن فهم هذا بأنه رغبة جزائرية للتأكيد على أحقيّتها في أن تكون قوّة إقليمية في افريقيا، فخلافها مع فرنسا حول ملف الذاكرة ليس وليد اليوم، لكن زادت حدّته مع التقرير الذي أعده المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا بطلب من ماكرون، والذي تضمن بعض النقاط المستفزة بالنسبة للجزائر، أهمها ملف تنقل الحركى وعائلاتهم بين فرنسا والجزائر وتكريمهم في تاريخ معيّن، ونقاط أخرى مرتبطة بذلك، والذي ترفضه هذه الأخيرة جملة وتفصيلا، ويشكلّ تقرير ستورا النظرة الأحادية لفرنسا التي ما تزال ترى في استعمارها للجزائر ماضيا مشرفا وجب تمجيده.

لقد فهمت الجزائر ضرورة تقليم أظافر فرنسا والحدّ من نفوذها الاقتصادي الذي تعزز في فترة حكم بوتفليقة، ولإحداث القطيعة مع النظام القديم الذي فتح ذراعيه لفرنسا في إطار الشراكة الاقتصادية، بدأت السلطة الجديدة في البلاد بالتضييق على الشركات الفرنسية وعدم تجديد عقود الشراكة معها، أهمها الشركة المسيّرة لميترو الجزائر، وشركة "سيال" للمياه بالعاصمة التي يسيّرها مجمع "سياز" الفرنسي، ثم عززت شراكتها مع الصين وتركيا اقتصاديا، بينما تراجعت شراكتها مع فرنسا، ويبدو واضحا أنّ السياسة الجديدة للجزائر ترتكز على تنويع الشراكة الأجنبية وعدم منح الأفضلية لأوروبا، ومؤخرا شرعت الحكومة في مراجعة بنود اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، بما يخدم أهداف الجزائر الجديدة المبنية على قاعدة "رابح-رابح"، كون أوروبا كانت ترى الجزائر دوما كسوق لبضائعها، واليوم، يبدو أن الجزائر بدأت فعلا بتطبيق خطتها الاقتصادية الجديدة بمراجعة سياسة الاستيراد من أوروبا، وتحديد قوائم مواد وسلع ممنوعة من الاستيراد من الخارج، وهو ما اعتبر ضربة موجعة للاتحاد الأوروبي الذي انزعج من الإجراءات الجديدة في ذات المجال. 

إذن، ألا يبدو واضحا اليوم من خلال هذه السياسة الجديدة التي تنتهجها الجزائر منذ عامين تقريبا، بأنها تبحث عن استرجاع سيادتها الاقتصادية كاملة؟ أو بعبارة أخرى، هل خرجت الجزائر فعلا من كونها سوق للبضائع الأوروبية بعد مراجعتها لإجراءات الاستيراد وفقا لما يخدم اقتصادها الوطني؟ 

الأكيد أن الاقتصاد الجزائري اليوم، بدأ يخرج تدريجيا من التبعية لأوروبا، والدليل على ذلك هو، تنويعها للشراكة مع أطراف غير أوروبية، بدأ بالصين التي تعتبر اليوم كأكبر شريك اقتصادي للجزائر رفقة تركيا، ورأينا كيف استطاع حجم الاستثمارات الصينية والتركية أن يتجاوز الاتحاد الأوروبي وفرنسا بالأخص، إذن، هذا دليل آخر على أن الجزائر أخذت في التخلّص تدريجيا من كونها سوقا لمختلف البضائع الأوروبية، لكنها تتعامل مع أوروبا بمنطق مختلف، بحيث مثلا، عززت شراكتها مع ألمانيا واسبانيا أكثر، أي التعامل الاقتصادي مع الأوروبيين بشكل منفرد، وهو طبعا ما أزعج فرنسا والمغرب، وطبعا تخدم هذه السياسة الجديدة مواقف الجزائر إزاء بعض القضايا كقضية الصحراء الغربية، حيث حاجة اسبانيا للغاز الجزائري يحتّم عليها تعزيز علاقتها الدبلوماسية معها، وهو ما يخدم دون شكّ مصالحهما المشتركة، بينما يغضب بعض الأطراف التي لا تريد للجزائر أن يكون لها دورا إقليميا أو دوليا.

تبحث الجزائر اليوم تعزيز شراكتها مع بلدان القارة السمراء، كيف ذلك؟

الأكيد أن أزمتها مع المغرب، أولا بقطع العلاقات الدبلوماسية، ثم غلق المجال الجوي أمام الطيران المغربي، ثم التوقف عن ضخّ الغاز الجزائري لإسبانيا عبر المغرب، كلها مؤشرات توحي بسعي جزائري للتوغلّ اقتصاديا في افريقيا، بدأ بمشروع خط الغاز العابر للصحراء نحو نيجريا، وهو مشروع سعت المغرب للظفر به، لكن الجزائر نجحت في افتكاك الصفقة، مشروع أنبوب الغاز الجزائري-النيجيري هذا، سيربط أوروبا بأفريقيا مستقبلا، وتراه الجزائر خطوة حيوية في مجال نقل الطاقة افريقيا، ويعدّ انطلاق لشراكة افريقية-افريقية، أو تنمية جنوب-جنوب، أي أنه سيمد القارة الافريقية لاحقا بالطاقة ويزيد من النفوذ الجزائري افريقيا، وطبعا هذا سيعزز مواقفها وحضورها الدبلوماسي والسياسي، مما سيجعلها قوة اقتصادية وإقليمية في المنطقة. 

ونعرف جيّدا أن هناك تنافسا محموما بين الجارتين المغرب والجزائر على التموقع افريقيا، لكن أنبوب الغاز العابر للصحراء إلى نيجيريا عبر النيجر، سيغيّر قدر قارة بأكملها، فهل ستكون هذه أهم ضربة توجهها الجزائر لفرنسا؟ على اعتبار أن فرنسا ما تزال تنظر لإفريقيا بعقلية استعمارية، خاصة إذا علمنا أن الكثير من الانقلابات العسكرية والسياسية كانت بشكل ما بتدخل منها، فهل سيقوّض الوجود الجزائري في افريقيا الدور الفرنسي هناك؟ دون نسيان اللاعب الجديد افريقيا وهو روسيا، التي تنافس فرنسا في بعض البلدان التي كانت تسيطر عليها، منها افريقيا الوسطى ومالي.