مصطفى حفيظ

ما تعجز عنه السياسة واللغة والثقافة والدين، تنجح فيه الرياضة، فهي تجمع بين الشعوب على اختلاف السنتهم وأديانهم والوانهم ومستوى معيشتهم، وما تفرقه السياسة تجمعه الرياضة، واليوم، تفعل الرياضة في وهران بالغرب الجزائري ما فشلت فيه السياسة بين البلدان،ويؤكد حسن استقبال الوفود الرياضية المشاركة في ألعاب البحر الأبيض المتوسط من طرف الجزائريين حقيقة أنّ الرياضة لا علاقة لها بالسياسة، فلو كانت العكس، لما حضر الوفد المغربي أو الاسباني أو الفرنسي أو تلك الوفود التي تنتمي لبلدان يكون البلد المنظّم على خلاف مع بلد ذلك الوفد المشارك. إذن، هل يمكن القول إنّ الرياضة أقوى من الدبلوماسية في تقريب الشعوب من بعضها؟

بغضّ النظر عن الخلافات السياسية والدبلوماسية وحتى الأيديولوجية واللغوية والثقافية بين دول حوض المتوسط، إلاّ أنّ تظاهرة مثل التي تقام في وهران اليوم على مدار عشرة أيام كاملة، ستكشف مدى قوّة الرياضة في الجمع بين الشعوب لا التفريق بينها، طبعا هناك سجالات قد تظل قائمة بين هذا البلد أو ذاك، كتركيا واليونان بسبب جزيرة قبرص، أو بين الجزائر والمغرب، وبين الجزائر واسبانيا، وهي خلافات سياسية أو دبلوماسية لها أسبابها التي قد تنتهي إلى الحل بشكل ما في مرحلة ما من عمر الخلاف، لكن هذا لا يمنع من تلاقي شعوب هذه البلدان في مكان واحد كما لو كانوا شعبا واحدا، فالوفد المغربي الذي ساد الاعتقاد بأنّ بلاده ستقاطع التظاهرة المتوسطية بسبب الخلاف مع الجزائر التي قطعت العلاقات الدبلوماسية مع جارتها الشرقية، ومنعت تحليق الطائرات المغربية فوق مجالها الجوي بسبب النزاع الصحراوي، حلّ فعلا في وهران واستقبل استقبالا حارّا لم يكن متوقعا، ربما أراد الجزائريون وأهل وهران بالأخص، ارسال رسالة للمغرب وشعبها بأنّ الرياضة تجمع الشعوب على عكس السياسة، ردد الجزائريون كلمات من قبيل "الجزائر والمغرب خاوة خاوة"، مع هتافات وتصفيقات حارّة من قِبل الجمهور والمنظّمين الذين كانوا في مطار وهران الدولي، ثم ردد بعض عناصر الوفد المغربي عبارات مثل "وان تو ثري فيفا لالجيري"، حتى أنّ بعض الرياضيين من الوفد عبّروا لوسائل الاعلام المحلية عن انبهارهم ودهشتهم من الاستقبال الاستثنائي الذي خصّتهم به اللجنة المنظّمة للألعاب، مما يؤكد حسبهم بأنّ الشعبين الجزائري والمغربي اخوة وأشقاء برغم خلافات الدولتين السياسية والدبلوماسية، ولا ينسى الجزائريون كيف كانت الجماهير المغربية تشجّع وتهتف للجزائر عندما فازت في كأس أمم افريقيا منذ سنوات قليلة، وحتى عندما شاركت في مونديال كأس العالم في الدورة التي لم تتأهل فيها بلادهم المغرب، إذن، لعله شعور متبادل بين أبناء المغرب العربي الكبير الذي برغم الخلافات السياسية ظلّوا محتفظين بذلك الشعور الأخوي، سواء شعور الجزائريين اتجاه المغربيين، أو العكس، وحتى مع التونسيين والليبيين، ولعل الجزائر بتنظيمها لهذه التظاهرة أرادت أن ترسل رسائل لخصومها بأنّ الخلاف مع المغرب ومع اسبانيا أو حتى مع فرنسا في مرحلة ما، ما هو إلا سياسي أو دبلوماسية نتيجة لمسألة ما، وإنّه لا مانع من أن تلتقي الشعوب على اختلاف ثقافاتها في بلد واحد. فهل يمكننا القول بأنّ الرياضة نجحت فيما عجزت عنه السياسة؟

إنّ الرياضة عبر التاريخ، كانت منافسة إنسانية تجمع بين الشعوب وحتى بين أبناء الشعب الواحد على اختلاف ألوانهم ولهجاتهم ومستوياتهم الاجتماعية والتعليمية والثقافية وحتى المعيشية، واليوم، نحن نرى حجم تأثيرها في الجماهير عبر العالم، فلعبة مثل كرة القدم مثلا، تجمع العالم في لحظة معينة أثناء مباراة كروية بين نادي برشلونة وريال مدريد، وهما فريقين من بلد واحد هو اسبانيا، لكن قلوب جماهير الكرة في العالم تتابعها بحب وتعلّق مرضي أحيانا، لدرجة تحسب الجماهير الجزائرية وهي تستميت في الدفاع عن فريق برشلونة مثلا كأنهم اسبان وليسوا جزائريين، هذا طبعا جانب من تأثير الرياضة على الشعوب، لكن شاهدنا في أكثر من منافسة رياضية كيف تشجّع جماهير الرياضة فرق غير فرق بلدانها، ثم تلتقي الجماهير فيما بينها فترقص فرحا لا لشيء سوى لأنها تعبّر عن فرحتها وبهجتها بهذا الحدث العالمي الرياضي والتجمع الإنساني الذي حدث لسبب ما في مكان ما في لحظة ما وجمع جنسيات ولغات وأعراق وثقافات مختلفة، ومناسبة عالمية ككأس العالم لكرة القدم خير مثال على ذلك.

لعل الجزائر تريد التأكيد من خلال تنظيمها لألعاب البحر الأبيض المتوسط، على قدرتها على تنظيم تظاهرة رياضية كبيرة، وأنها كدولة متوسطية، قادرة على إنجاح حدث رياضي يحتاج إلى الكثير من الجهد، بالنظر إلى الحاجة إلى توفير الراحة والأمن للمشاركين من جميع بلدان حوض المتوسط، حتى إن كان الوفد من بلد هي على خلاف معه. ربما تريد الجزائر التأكيد على وجودها اليوم كقوة متوسطية تملك من الإمكانيات ما يؤهلها للبروز كقوة سياسية وإقليمية في المنطقة. وبرغم استمرار خلافها مع اسبانيا، ومع المغرب، سمحت بقدوم الوفد المغربي والاسباني، إلى جانب وفود الدول الأخرى، وهو الأمر الذي شكّكت فيه أوساط إعلامية أجنبية كانت قد وجّهت انتقادات للجزائر في عدم قدرتها على إنجاح التظاهرة.

تستخدم الدول اليوم ما يسمى بالدبلوماسية الرياضية لبناء علاقات مع الشعوب وفتح بلادها أمام السياحة أيضا، أي أن الهدف الإنساني الأول للرياضة هو مدّ أواصر المحبة والصداقة والتلاحم بين الشعوب والأعراق والثقافات، لأنّ أي بلد مستحيل يرفض قدوم السياح إلى بلاده بما أنّ السياحة مصدر دخل بالعملة الصعبة، لذلك، كلما أظهر شعب ما مدى قابليته لاستقبال ومحبة شعبا آخر مهما كانت ديانته أو لغته أو ثقافته، كلما زاد من فرص دبلوماسية بلاده الرياضية والثقافية، ونحن نعرف جيدا بأنّ الرياضة اليوم وسيلة لتحقيق أهداف سياسية أيضا، والأكيد أن أهداف الجزائر من تنظيم هذه التظاهرة هي سياسية بالدرجة الأولى، لأنّها تريد فكّ العزلة التي أرادت بعض الأطراف وضعها فيها، مثلا تناقلت بعض وسائل الاعلام والسوشل ميديا معلومات عن مقاطعة الوفد الفرنسي والاسباني والمغربي لهذه الألعاب، وهي مصادر أرادت ربما التشويش على نجاح هذه التظاهرة، لكن في الأخير، يبدو أن الرياضة تغلّبت على السياسية، فلا الوفد المغربي قاطع الألعاب، ولا الوفد الفرنسي والاسباني قاطعا، وشهدنا لحظة وصول كل هذه الوفود وفدا بوفد، فهل فشلت السياسة أمام قوّة تأثير الرياضة في تقريب الشعوب والثقافات؟