مصطفى حفيظ

لقد كان امبرتو إيكو على حقّ عندما قال ذات مرّة "إنّ أدوات مثل تويتر وفيسبوك: تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء"، هل تنبّأ إيكو بعصرنا هذا؟ عصر أصبحت السوشل ميديا هذه تتحكم في العقول وتصنع آراء الناس، حتى أنها أعطت الجميع مساحة للتعبير عن رأيها ولو كان مبنيا على أفكار خاطئة، إنّ الخطير في الأمر أن الناس العاديون أضحوا يخوضون في كل المواضيع ويناقشون مسائل سياسية وعلمية ودينية وفلكية وحتى جيوسياسية وكأنهم على دراية بكل شيء، لكن الحقيقة أنهم كوّنوا تلك الآراء عبر متابعتهم لمحتويات منصات تواصل اجتماعي عبر الانترنت، فهل هو غزو البلهاء فعلا؟ وهل نحن في خطر جراء ذلك؟

بات عاديا أن تسمع شخصا دون مستوى ثقافي أو نقدي وهو يخوض في مواضيع سياسية أو اقتصادية أو دبلوماسية أو رياضية أو أياً كانت، برغم أن مسائل كتلك تحتاج لنوع من التخصص، أو على الأقل مستوى تعليم جامعي معيّن، لكن ما نراه هو العكس، حتى أننا أحيانا نجد أنفسنا نجادل أشخاصا عقولهم مغلقة أو يصح وصفها بالمسطحة، غير قابلة للنقاش ومتعصبة لرأي قد تكون أخذته من صفحة فيسبوكية أو قناة يوتيوب أو صفحة انستغرام أو أي وموقع آخر في الانترنت، لاحظت مؤخرا وأنا أتابع ما يحدث جراء الحرب الروسية الأوكرانية، كيف أن شبابا من محيطي الاجتماعي بدأوا يتابعون هذه الحرب ويدلون بدلوهم فيها بالنقد والتأييد وحتى أن منهم من أصبحوا فجأة محللين سياسيين وهم جالسون على كرسي في مقهى الحيّ، يقول لك إنّ بوتين أقوى رئيس في العالم، وسيصنع النظام العالمي الجديد، وأن أوكرانيا المدعومة من الغرب سوف تسقط، وأن أمريكيا تقوم بتجريب أسلحتها في هذه الحرب وأن الجزائر ستكون ضمن الدول القوية ضمن هذا النظام العالمي الذي سيعلن عنه الرئيس الروسي ويجمع كل الدول الصديقة والحليفة، المهم أن كلاما مثل هذا سمعته وأنا بالمقهى لبعض الوقت.

وكثيرا ما وجدت نفسي أدخل في نقاش مع أحدهم لا لأعطيه وجهة نظري حول المسألة التي كان يدافع عنها، بل لأصحح له بعض المفاهيم والأفكار التي يكون قد فهمها خطأ، لأنه ببساطة لم يكوّنها هو بنفسه، وفقا لدراساته وقراءته للكثير من الكتب المتخصصة ولاتساع ثقافته، بل فقط لأنه قرأ منشورا فيسبوكيا للعالم الفلاني، أو للمحلل الفلاني أو حتى أنه شاهد مختصا يتحدث عبر شاشة اليوتبوب أو في أي صفحة أخرى من منصات السوشل ميديا. فلو سألته سؤالا دقيقا عن مصدر المعلومة التي يدافع عنها، تجده يعجز عن الإجابة، مرّة كنت أتجادل مع أحدهم عن أمازيغية الجزائر وسكانها، فقال لي، وأنا أعرف أنه لم يتجاوز مستوى الاعدادي، إنّ أصل المنطقة عربي، وأن الأمازيغ جاؤوا من شبه الجزيرة العربية، قلت له وكيف عرفت، قال إنه متأكد، لكنه عجز عن ذكر ولا مصدر واحد عمّا قال، فحاولت أن أشرح له عن حقيقة الناس الذين يروجون مثل هذه الأفكار عبر الانترنت، وعن ما هي الأيديولوجية وكيف لمثقف متخصص في مجال دراسي معيّن أن يزرع الشكّ في نفوس هؤلاء لمجرد أن ايديولوجيته لا تتوافق وحقيقة الأمر الواقع، فأستاذ جامعي في الجامعة الجزائرية مثلا، يتحدث عن عربية الأرض الجزائرية ببعض الحكايات التي ليس لديها سند تاريخي ولا مخطوطة تاريخية قديمة تؤكد حقيقة مزاعمه، يمكنه أن يؤثر على الملايين لمجرد أنهم يميلون لنفس الأيديولوجية، فبدلا من أن يحرك فيهم الحسّ النقدي المعرفي، فيذهبون للبحث عن الحقيقة عبر قراءة الكتب التاريخية ومقارنتها ببعضها للخروج بنتيجة معينة، تجدهم يتأثرون ويتصعبون لرأيه ويرفضون أي رأي مخالف.

لذلك، فاليوم، وفقا لما هو ملاحظ، نحن في مواجهة خطر حقيقي قد يكون أكثر خطورة من عدو خارجي يملك ترسانة من الأسلحة الفتاكة، إن العدو الحقيقي هو الجهل وسيطرة العقول المسطحة على الساحة، إنّهم كالسيل الجارف، يكوّنون آراءهم من آراء غيرهم، ويحاربون كل مثقف يفوقهم مستوى، إنّ الذي استطاع نشر فكرة "الأرض مسطحة وليست كروية" وأقنع بها الملايين من المسلمين العرب، يستطيع أن ينشر أكثر من هذا الهراء غير المبني على حقائق علمية، يمكنه أن يحوّل أنظار الجموع، من متابعي السوشل ميديا، إلى تبني أفكاره على درجة خطورتها، أنظر مثلا، صاحب قناة يوتيوب يدعى العربي زيطوط، وهو دبلوماسي جزائري سابق يقيم في لندن، ويقدم نفسه كمعارض للنظام الحاكم في الجزائر، لديه جمهور واسع من المتابعين، جلهم جزائريين شباب، يتبنون أفكاره ويصدقون كل ما يقول عن الجزائر، فمثلا عندما يتهم بالجيش بالخيانة، ويقدم بعض الدلائل، تجد الناس الذين يتابعونه يرددون ما يقول، تصادف أن التقيت بأحدهم، قال لي إن الجيش خائن، قلت له وكيف كوّنت هذا الرأي، وهل لديك اثباتات عن خيانة أحد العسكريين، وما نوع الخيانة، قال لي المهم هذا ما أعرفه، فهمت لاحقا أنه متأثر بهذا المدعو زيطوط، وأنه كوّن رأيه ضد الجيش بناء على قناعات غيره.

لكن ماذا لو اتسعت رقعة هذا التأثير؟ كنا قد رأينا كيف أثرت السوشل ميديا في الحراك الشعبي الذي تم تجميده، لكن استطاع صناع المحتوى عبر فيسبوك ويوتيوب من التأثير على الملايين، لأنّ أي منشور يمكنه أن يثير العواطف ويصنع فكرة، ويمكن للفكرة أن تكون كالقنبلة لمجرد أن يعتنقها الآلاف ثم الملايين، كان معظم المشاركين في المسيرات يتبنون أفكار غيرهم، حتى أن مسألة من كان يكتب عبر الفيسبوك ويحرك الجماهير بتلك الطريقة أثارت الكثير من التساؤلات، كيف غيّر آراء الجماهير فجأة من الدعوة إلى سقوط النظام كله إلى تحييد الجيش واعتباره مؤسسة منقذة للشعب، هذا كمثال عن القدرة على التأثير عبر السوشل ميديا، ثم، كيف استطاع زيطوط بحركته رشاد أن يجعل الآلاف أو ربما الملايين يسيطرون على المسيرات لدرجة كانوا يطردون من كانوا يخالفونهم في الرأي، لأن الحراك شاركت فيه كل مكونات المجتمع على اختلاف ثقافتهم ومستوياتهم التعليمية ومعيشتهم، ما تمت ملاحظته أن الجميع ممن اعتنقوا أفكار حركة رشاد كانوا يطاردون أصحاب الفكر الحرّ، أو لنقل أولئك الذين كانوا يعارفون عودة الفيس (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) إلى الواجهة، وهي ذلك الحزب الاسلاموي الذي كان سببا في العشرية السوداء في الجزائر، لأن عناصره حملوا السلاح ضد الدولة والشعب بسبب ما أسموه حرمانهم من حقهم الشرعي في الحكم، لأن الفيس هذا كان قد فاز في الدور الأول من الانتخابات التشريعية سنة 1991، لكن الجيش أوقف المسار الديموقراطي وقتها بحجة خروج الفيس عن القانون وتمرده. ومهما يكن، فزيطوط هذا، كمثال فقط، استطاع التأثير على متابعيه ونشر أفكاره وزرعها وسط الحشود، لذلك، صعب معرفة حجم هذا التأثير ومدى خطورته في المستقبل، لأن مستهلكي محتويات السوشل ميديا أصبحوا كالعميان، وفقا لعدة دراسات صدرت حول ظاهرة الإدمان على السوشل ميديا ومحتوياتها.

تمكنت السوشل ميديا من تحييد المثقف النقدي وصاحب الفكر الحرّ، فلا نجد مفكرا أو مثقفا لديه ذلك الحجم من المتابعين لصفحة شخص صانع محتوى أو مشهور، فمثلا بمجرد أن تصدر أغنية ما عبر يوتيوب، يتهافت عليها جمهور الانترنت كالجراد، فيتصاعد عدد المشاهدات ليصل الملايين في ظرف يومين، لكن لا تجد محتوى جاد وعلمي أو ثقافي ونقدي يتجاوز بعض آلاف من المشاهدات، إنّ الذوق العام أصبح يتابع التفاهات أكثر من الثقافة، لا نجد صانع محتوى واحد من أولئك الذين يسمونهم "المؤثرين" يروّج لقراءة كتاب ما، أو يرفع من مستوى النقاش إلى درجة توحي بمستواه الثقافي، كل ما هناك، هو حجم المشاهدات، أما الأثر العكسي فهو تبني المتابعين للصفحة لآراء هذا المؤثر.

إنّ امبرتو إيكو لم ينطق من عدم، إنه فيلسوف وكاتب ومثقف نقدي ذائع الصيت، رأى فعلا بأن الانترنت بأدوات تواصل اجتماعي هي الخطر الذي يجب مواجهته، إننا اليوم في مواجهة جماهير تستهلك يوميا عشرات الساعات من الارتباط بالأنترنت التي أصبحت في جيب كل مواطن في العالم، لكن الأخطر أن يتحول المجتمع إلى قطيع أغنام يقوده آلاف الرعاة، كل يأخذه إلى جهة، مهمة هؤلاء الرعاة تسطيح العقول وتتفيه آراء الناس وميولاتهم وتوجهاتهم ليغفلوا عن واقعهم البائس، واقعهم الذي يحتاج فعلا إلى نقاش فيسبوكي، عن حقيقة عالم الشغل والتشغيل في البلاد، وحقيقة فساد المنظومة التربية والجامعية مثلا، فلا يناقشك أحد في كيفية اصلاح الجامعة وتطويرها بيداغوجيا وعلميا لتلحق بمستوى جامعات افريقية تصنف ضمن العالمية، إذن، هل سيطرت التفاهات فعلا على واقعنا بسبب السوشل ميديا؟ وأي اختفى المثقف النقدي؟ ولماذا تبنت وسائل الاعلام عندنا نفس الفكرة وراحت تقدم برامج تافهة تستقبل فيها صناع المحتوى من "المؤثرين" ومحاولة جلب حجم مشاهدات مرتفع، لكن بالمقابل، لا تهتم لا بالكتّاب ولا بالمثقفين لمعرفتها بأنّ درجة المتابعة يقلّ عندهم؟