ما جرّ قلمي لكتابة هذا المقال في هذا الوقت تحديداً الا بعد ان بدأت خيوط التفاهمات بين الفرقاء في ليبيا تقترب مما يدفع الي تحولات إيجابية قريبة قادمة. لقدبات واضحا بأن هناك تفهم دولي بالابقاء علي المجلس الرئاسي شكلاً، ووضع لمسات تجميلية علي هيكليته موضوعاً، وبأن هناك دعماً توافقت عليه القوي الدولية لدعم مسيرة تقدم الجيش الليبي بعدما أصبح الخيار الوحيد النافذ في الساحة الليبية، وبهذا سيتم اقصاء كافة المظاهر المنتشرة الأخري من طرابلس والتي سيبقيها المجتمع الدولي بعيداً عن أي صراع عسكري قادم تمهيدا للتغيير في مسيرة الإنتقال، كمابات الصراع الفرنسي – الإيطالي علي ليبيا يصل الي مرحلة تأكيد وتأطير لتحديد المصالح والأهداف الإستراتيجية لكل منهما، وهو ما يثير الدفع بمسارات قادمة، وارتقاب يدنو للتحول من مرحلة التحضير داخل المرحلة الإنتقالية الي مرحلة القرار.

كما دفعني الشأن العام، والمتحدثين عن مخاوف عسكرة الدولة لوضع الخطوط العريضة للتحقق من مدي عمق تلك المخاوف؟ وهل أتت من دواعي ودوافع جديرة بمعرفتها؟ أم أن هناك جماعات تصطاد في الماء العكر لتمرير منهجيات مصلحية سواء كانت تيارات دينية او سياسية او اقتصادية.

لا توجد وصفات بسيطة للحكومات المدنية التي ترغب فيإعادةتعريف علاقتها مع العسكريين، ولذاأتفق مع ما ذكره "ستيف سميث" بقوله (ولكونالنظريات لا تشرح او تتنبأ وحسب، إنما تدلنا علي الإمكانيات الموجودة للعمل والتدخل البشري، ولا تحدد إمكانيات التفسير المتوفرة فحسب، بل وتحددأيضاافاقناالأخلاقيةوالعملية)، رأينا من الضروري أن نضع وصفاً للمرحلة التي تمر بها ليبيا تحقيقاً واستشرافاً ومعرفة كيف يكون حجم الخلاف بين العسكريين ومجتمعهم وكيف التقاسم؟ وهل بالإمكانتحول الجيش من التفاعل كمؤسسة  مع غيرها من مؤسسات الدولة الي التكامل في إدارة الدولة؟

نهوج ومسارات

لقد مرت ليبيا بعد فبراير لعام2011بالكثير من التغير في ملامحها وأحوالها وثقافتها، كما شكلت الحالة الليبية تعريفاً حقيقيا لمعني "ديستوبيا" المجتمعات المعاصرة، حيث اثار الصراع السياسي والعسكري والفوضي غير المحدودة وظواهر عديدة لم تكن ضمن الحسابات بل تجاوزت توقعاتها، ومنها التوترات الإقليمية غير المقيدة والهجرة غير القانونية وتواصل الإرهاب عبر المعابر الرسمية، ومن ثم اصبح كل هذا يشكل القلق الدولي والإقليمي الراهن.

لقد قامر المجتمع الدولي بالتدخل الإنساني في ليبيا كمحلل لإستراتيجيات أكبر من كونها تتعلق بالجانب الإنساني، ودعم اتفاقات غير واقعية وغير قاعدية، وفضل التعامل من الاعلي للأسفل، او من القمة للقاعدة بدلاً من العكس بعد انهيار سلسة من التساقطات المحلية والإخفاقات المتوالية، الامر الذي منح الكثير من التدخلات غير اللآئقة والمبررات مزدوجة المعايير وقدم الدعم اللآم حدود، واللآ شرعي لاتفاق الصخيرات، مما انعكس بوضوح بفشل جهود الكثير من المبعوثين الأمميين وزاد من تشابك واختلاف المناهج والطرق للمعالجات المستقيمة.

صعوبات تأسيسية لعمليات الإنتقال الي الديمقراطية

إن ما يدعمه الكثير من الكتاب والفقهاء، وما نستمع اليه في الكثير من التحليلات المختلفة، لا يعكس معني حقيقي لنهج الديمقراطية والتقارب منها، وبالأخص عندما ترتكز تلك التعريفات علي تفسير كونها "عمليات الانتخابات" معتبرين الصناديق المفتوحة عامل حاسم لإرساء تعريف شامل لها. كما أن تعدد أنواع الديمقراطيات في العالم ووفقا للعلاقات القائمة والواقعية بين الحاكم والمحكوم والتنظيم الإقليمي والإقتصادي والإجتماعي يبين أنواعاً مختلفة ممكنة ومحتملة او أحياناً غير كافية او غير قابلة للتطبيق، ومن ثم توجب معرفة وقياس وتحليل سلوك الفاعلين علي الساحة أفراداً وجماعات ومعرفة مؤثرات مساهمتهم بصورة عامة، وتطور الرأي العام، وسيادة الهياكل القانونية والإجراءات التي تعززها ومن ثم يصبح النظام الديمقراطي راسخاً عندما يتعرف ويقتنع الرأي العام بأنه لا خيار بديلاً عن هذا المسار.

كما نحاول ان نوجز تعريف الفقيه "روبرت دال" لدمقرطة الإنتقال بسبع نقاط جوهرية، متمثلة في المناصب العامة المنتخبة، والإنتخابات الحرة والنزيهة، والإقتراع العام، والحق في المنافسة علي المناصب العامة، وحرية التعبير، وتنوع مصادر المعلومات، وحرية التشارك. 

وفي كل الأحوال، يجب أيضاً التمييز بين الأداء والتكوين، حيث يذهب الفقيه روستوف الي القول " العوامل التي تحافظ علي ديمقراطية مستقرة لا يمكن أن تكون هي التي تسببت في وجودها.

عمليات الإنتقال

يذهب بعض الفقهاء الي القول بأن لا يوجد عملية إنتقالية واحدة في بلد معين، بل يوجد العديد من عمليات الإنتقال في مجالات متنوعة سياسة واقتصادية واجتماعية، بشكل قد لا يكون متناغم او متزامن، ووفق أنظمة جزئية تعمل علي توطيد تلك الخطوات.

المراحل الثلاث من الإنتقال للتوطيد

يقترح بعض المفكرين تقسيم المرحلة الإنتقالية الي ثلاث أجزاء رئيسية، غير أن جميعهم يتفق علي ضرورة الوحدة الوطنية كقاعدة عامة تأسيسية، ويتمثل الجزء الأول من تلك المراحل الثلاث، المرحلة التحضيرية، ومن ثم الجزء الثاني، وهو مرحلة القرار، والأخير هو مرحلة التعود. ولكل من المراحل سماتها وخصائصها، غير ان الثوابت تؤكد سمات النضال والصراع ومأسسة بعض الجوانب الحاسمة من العملية الديمقراطية، كما أنها تتجه في وصفها بغياب الحس الديمقراطي، والتخوف من انزلاقات الحرب الأهلية. وهذه المراحل الثلاث، قد إختصرها المفكر أودونيل وحددها بمستويين، المستوي الأول الإنطلاق من حكم استبدادي لتنصيب حكومة ديمقراطية، والثاني، التحول الي ترسيخ ديمقراطي، وهو ما يعرفه البعض بمرحلة التوطيد حيث يصبح التناوب علي السلطة حقيقياً ونبراساً للمستقبل، ويفسرها الفقيهان لينز وستيبان "بالمغالطة الانتخابية"، كما يري البعض بناء قواعد تنافسية قادرة علي منع الاعبين الرئيسيين من مقاطعة اللعبة.

يؤيد هذا المفهوم "فليب شميتر" بقوله "ليست الديمقراطية التي يتم توطيدها بعد سقوط أنظمة اوتوقراطية، بل هي مجموعة من المؤسسات المختلفة او الانظمةالجزئية التي تربط المواطنين بالسلطة العامة. غير أن الترسيخ الديمقراطي، عملية طويلة تمتد أحياناً عبر جيل كامل، وهي ما تحول دون تراجع التحول الديمقراطي في وقت لآحق. ويذهب بعض الفقهاء الي تقسيم الترسيخ او التوطيد لقسمين وهما الترسيخ الإيجابي والترسيخ السلبي. حيث ينطوي الأول علي التخلص الكامل والنهائي من أي أمل او خيار غير ديمقراطي. ويذهب الثاني الي الترسيخ التطوريوالتفاعلي لعمليات ديمقراطية متواصلة حتييستقر ويكتسب صدقية.

ويعتمد "صاموئيل فالنزويلا" في رؤيته للترسيخ الديمقراطي رؤيته لعناصر جديدة تساعد علي ربط العملية العامة بنظرية الإصلاح العسكري، مشيراً الي إمكانية التخلي في مرحلة الترسيخ عن إتفاقات أو أحكام قد تم استخدامها في مرحلة الإنتقال، وهو ما يعني كما يفسرها الكاتب نارسيس سيرا، بأن هناك إمكانيات شرح الإصلاح العسكري مع عملية الإنتقال والتوطيد.

وبهذا الرأي، يمكننا آن نتفق في تقسيم الــــ"ترانسيتولوجيا" او الإنتقالية وفق ما ذكره الكاتب "نارسيس سيرا"، الي مدرستين، أولهما الشكلية، وهي ما تخدم مجالات الانتخابات والتناوب علي السلطة، وثانيهما، الإرتباطية او المضمونية، وهي ما تتيح ممارسة الحقوق الفعلية وتتيح دمج الإصلاح العسكري من ضمن تحليلها، وهي تكون مرتبطة بمقدار جهوزية السلطات العسكرية وتقليص ميولها وتدخلها في السياسات والتأثير علي عملية إرساء الديمقراطية.

واسقاطاً لهذا الرأي علي الشأن الليبي، يتوجب علينا عدم نقل الرأي دون مناقشته وتحليله والغوص في أغواره، فقد عملت المؤسسة العسكرية بناءا وسداً منيعا في مقاومة التدخلات الدولية، ومحاربة الإرهاب، والتصدي لحركات مارقة، إضافة الي هشاشة بنية النظام الدستوري والقانوني وغياب القاعدة الضرورية لوحدة وطنية، ومن ثم فإننا نمر خلال حالة خاصة تتعلق بما مدي تجاوب المؤسسة العسكرية وتفاعلها وقناعتها بالمرحلة الإنتقالية في حد ذاتها؟، وما هي ضمانات استمرار قوتها وقدرتها علي صيانة مكتسباتها؟ وهل سيكون للمؤسسة دوراً حقيقياً وفاعلاً في التحول الي ديمقراطية مدنية-عسكرية فيما يعرف بمرحلة التوطيد والترسيخ؟ في المقابل، هل سنعتبر الديمقراطية في ليبيا قد ترسخت في ظل  "فوقية" السلطات العسكرية؟ وهل ستضمن السلطات العسكرية عدم التحكم سياسياً في مسار الدمقرطة؟ وهل  ستضمن الاستقلالية المدنية؟

كل هذه التساؤلات ستضعنا أمام استشرافات قادمة لدراسة مستفيضة للحالة الليبية والصراع والإنتقال ومن ثم الترسيخ ومراحل قادمة أخري في مقالة قادمة.

كاتب ليبي 

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة