مقتل الامام علي بن أبي طالب إنتهى زمن الخلافة الراشدة ، صار الفقه والإشتغال بأمور الكتاب والدين وظيفة منفصلة عن مهام الحاكم واستقل كوسيلة للارتزاق وكسب العيش..ومع ذلك كان هذا الانفصال صوريا إذ ظل التحالف بين رجل الدين والسلطة الزمانية قائما بقوة طوال مراحل الدولة الاسلامية ..ولا مبالغة في القول أن هذا التحالف مايزال قائما ومؤثرا في كثير من البلاد العربية والاسلامية حتى وقتنا الحالي.. 
في مواجهة هذا الزواج "الكاثوليكي" بين جناحي السلطة في التاريخ الاسلامي الرسمي الذي إختطف المشروع المحمدي الاصلاحي وحوله في إتجاه ترسيخ البنية الاجتماعية التقليدية وتأكيد التراتبية الطبقية الأزلية، ظهرت مقاومة شرسة وإن كانت غير منظمة ولامؤطرة إلا في سياق قتالي تم سحقه في بدايات تأسيس الدولة الأموية ..الخوارج نموذجا..
في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، أخذ الانقلاب الاقطاعي على المفاهيم الواردة في التنزيل حول العدالة والمساواة بين الناس.. ولافرق بين عربي وأعجمي الا بالتقوى.. وكلكم لآدم وآدم من تراب..منحى عملي واجرائي إذ نجح أبناء الارستقراطية القرشية في إستبعاد أصحاب المصلحة  في مشروع التغيير  من الموالي والعبيد والفقراء والمهمشبن ، وتسللوا برفق ووفق استراتيجية مفكر فيها إلى مفاصل القرار وإدارة الدولة  فاستولوا على أهم المناصب في عاصمة الدولة الوليدة ..وعينوا الحكام في كل الولايات من أبناء العمومة الذين عاثوا في الأرض ونهبوا بيت المال وظلموا أهل الأمصار حتى اشتعل فتيل الثورة فيما عرف بالفتنة التي أفضت في النهاية إلى قتل أمير المؤمنين في عقر داره .. ليعود الصراع إلى المربع الأول بين قوى الظلم والهيمنة والنفوذ الاقتصادي والاجتماعي وبين الجموع الهائمة في مسارب التاريخ بحثا عن الخلاص والمخلص ..
وسط هذا الهرج والمرج السياسي الذي تبلور في فقه وفكر أصولي أخذت تتأسس تياراته و مدارسه في مراكز الثقافة الاسلامية الجديدة من يثرب الى دمشق الى الكوفة ووو ..ظهر إسم غيلان الدمشقي كأحد رموز المقاومة الفكرية الاسلامية للإستبداد القبلي المتسربل بمسوح الدين..ولد في العام 106 هجرية ، درس الفقه على الحسن البصري واشتهر  كصاحب أشهر فرقة من فرق المتكلمين المسلمين تقول بحرية إرادة الإنسان  في أفعاله خيرها وشرها، وكان  وفرقته من أوائل الذين جاهروا بهذا المذهب، وعارضوا القول بالجبرية في عاصمة الدولة الأموية .
وكانت الجبرية مذهبا ايديولوجيا لبني أمية، لأنه يعفيهم أمام عامة المسلمين من المسؤولية عن الفساد الذي أحدثوه في نظام الحكم الإسلامي، فكان غيلان هذا من قادة المحتجين على إنحراف الأمويين، فضلاً عن رفضه لعقيدتهم الجبرية المناوئة للحرية، ، ويهاجم تسلطهم على الناس وحياة البذخ التي كانوا يعيشون فيها كما كان يفعل ملوك العجم والروم.
كان رأي غيلان في الخلافة أنها تصلح في كل من يتوفر على شروطها، حتى ولو لم يكن من قبائل قريش مخالفاً بذلك بني أمية و الشيعة على السواء، وأنكر صراحة فكرة احتكار الحكم في هؤلاء، وكان يقول: “كل من كان قائماً بالكتاب والسنة فهو مستحق لها، ولا تثبت إلا بإجماع الأمة”، ولقد كان بهذا الرأي طاعناً في شرعية خلفاء ذلك الزمان،. وبالرغم من أنه يعد أحد أكبر الذين دافعوا عن حرية الإنسان وعن العدالة، وعارض مفاهيم الجبرية التي روج لها الأمويون لتبرير استيلائهم على السلطة، إلا أن كتب التاريخ الرسمي الذي يكتبه المنتصرون عادة لم تنصفه ولم تذكره بما يستحق..
تقول أخبار السير أن الخليفة الأموي  عمر بن عبد العزيز قد سمع عن هذا الفقيه العالم  يخطب بين الناس و ينتقد بني أمية  لنهبهم بيت مال المسلمين ..فارسل في طلبه وسأله فلم ينكر و طالبه بأن يسترد  أموال بيت مال المسلمين المستباح من قبل بني عمومته..
وبعد مقتل عمر بن عبد العزيز ووصول هشام بن عبد الملك الى عرش الخلافة نفذ الحاكم  الجديد تهديده وقام بصلب غيلان على أبواب دمشق بتهمة التجذيف والزندقة وقال أعداؤه من وعاظ السلاطين وبطانة السوء في مقتله :- ان قتله أفضل من قتل ألفين من الروم..
كل ذلك لأن الرجل رفض الانصياع لبهتان الحكام وشيوخهم وثار في وجه من تجرأوا على حدود الله واعتدوا على الحقوق  ..

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة