الرئاسي ينهي مسيرته 

لقد تضاءلت فرص المجلس الرئاسي في الإبقاء علي شرعيته الدولية، وفقدان الشرعية الوطنية بكامل تفاصيلها، ليصبح المجلس في دوامات ومفترقات وعرة، تتجاذبها أمواج المصالح في المنطقة المتوسطية والأفريقية. لم يكن أمام الرئاسي والوفاق العديد من الاختيارات والمفاضلات، فبعد أن خسر رهان القوة علي الأرض، واستنفذ الأموال للمقامرة والمغامرة، بات الوضع اكثر هشاشة وسيولة ورخوة، وهو ما سيدفع الجيش الليبي في مسيرة التقدم، وسيعيد الثقل التشريعي لـ مجلس النواب الليبي مجدداً. 

يبدو بأن السحر انقلب علي ساحره، وأصبحت دائرة الشك تدور بين أطراف دولية وتخالجها الكثير من عدم الثقة وغموض مستقبل المصالح التجارية والإستراتيجية. فقد راهن الكثير علي الاتفاق السياسي بـ الصخيرات منذ أعوام، وبناء عليه قامت تلك الدول المراهنة بدعمها للمجلس الرئاسي والاعتراف بـ حكومة الوفاق التي لم تجني موافقة ومصادقة مجلس النواب الليبي، وظلت تلك القوة الدولية ومن بينها إيطاليا تؤيد وتدعم بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية  المتاحة وصولاً الي ارسال بعثات عسكرية الي ليبيا تحت مظلة الوفاق -بالرغم من مخالفتها صراحة لحظر السلاح علي ليبيا- وذلك إضعافاً للمسيرة الشرعية المتمثلة في البرلمان الليبي والقيادة العسكرية،  في الوقت ذاته، فإن روسيا والتي نتعرف علي موقفها منذ انطلاق عملية الكرامة بأنها مؤيدة لمسيرة الجيش الليبي، الا أن تسارع الأحداث في حوض شرق المتوسط، ودخول تركيا في شراكات عسكرية – أمنية - بحرية مع حكومة الوفاق، قد يدفع الروس لتبديل الرهان وتغيير التحالفات، وخصوصاً، فإن تركيا تمثل جوانب رئيسية لتحقيق المصالح الروسية، فهي الشريك والحليف لروسيا في سوريا، وهي ايضاً من تمتلك المنظومات الإستراتيجية للدفاع الجوي الروسي (اس 400) المقابلة لمنظومات الباتريوت الأمريكية، وبالإمكان تمكينها في منطقة الحوض المتوسطي والذهاب الي ابعد من ذلك ودخولاً في شمال أفريقيا، كما أن الموقف الأمريكي - الأوربي بمنطقة شرق المتوسط يغلب مصالحه التجارية والاستراتيجية باحثاً عن كل الوسائل لحرمان البلدين...تركيا وروسيا من حق الإنتفاع وتجفيف الموارد الطبيعية، وتحويل الشأن الي دول أخري، ومنها اليونان وقبرص وغيرها. فالعلاقات الدولية ودينامياتها نستطيع وصفها بالحركة الدائمة، وتبحث عن أدوار لها وفق المصالح وليس...  

تركيا تضغط من أجل الحصول علي ثروات المتوسط من خلال شركات عسكرية وأمنية مع الوفاق الليبي


القوة بكل معانيها والاتفاقات والمعاهدات الدولية عنصران اساسيان في تحديد معالم العلاقات بين الدول، وترسيم الحدود سواء البرية او البحرية، وقد ساهمت الإكتشافات الحديثة للثروات الطبيعية عام 2010 في شرق حوض البحر المتوسط الي نشوب النزاعات والصراعات بدلاً من تحقيق الرفاء والتنمية. 

غير أن المعاهدات الدولية تتطلب مصادقة الدول عليها، فهناك دولاً لم توقع علي معاهدة قانون البحار لعام 1982 والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1994، وهي اتفاقية دولية عرفية، وحلت محل الإتفاقيات الأربع؛ البحر الإقليمي، والجرف القاري، واعالي البحار، والصيد والمحافظة علي الموارد الحية،  ومن تلك الدول الرافضة، الولايات المتحدة الأمريكية والتي وقعت علي اتفاقية التنفيذ ولم توقع علي القانون نفسه، ومنها دولاً معارضة للإتفاقية بشكل سياسي كـ تركيا في خلافها مع اليونان وقبرص علي سيطرة أثينا علي بحر إيجا، وأزمة الجمهورية التركية لشمال قبرص، كما رفضت  ليبيا وإسرائيل وسوريا لأسباب أخري لسنا هنا بصدد دراستها. 

تعتمد كل هذه الدول (الرافضة) علي إجراءات أخري ومعايير مختلفة لرسم حدودها، ومن هنا نأتي الي أنواع متنوعة من الصراع والنزاع الدولي- المحلي، وتضارب المصالح وتداخلها، ليكن العنصر الأول القوة احياناً سيد الموقف كما هو حال إسرائيل-لبنان في خلافهما، ويكن الاتفاق الدولي مميزاً كما هو حال اليونان وتركيا، حيث تعتبر تركيا بأن اتفاقيات رسم الحدود البحرية تنتهك الحدود المائية فيما يتعلق بحدودها وفق ميثاق الأمم المتحدة، كما يتعدي علي حقوق القبارصة الأتراك الذين لا يمتلكون حق الاعتراض علي شطرهم الجنوبي، غير أن تركيا تحاول أن تعزز مكانتها ومحورية موقعها الجغرافي وهو ما زاد من حظوظها لتأدية دور الناقل لخطوط الغاز من وسط آسيا وروسيا الي أوروبا.    

كما تعتبر ايضاً مصر البديل الإستراتيجي للدور التركي، بحكم علاقتها المتوازنة والمميزة مع قبرص واليونان وباقي دول الإتحاد الأوربي، علاوة علي ظهور اكتشافات فعلية بحوض ظُهر، كما أن بإمكانها استخدام محطات التسييل من خلال سواحلها ومن ثم نقله لأوروبا. 

وبهذا نأتي لدور الدول الكبرى في مراقبة ومتابعة صراع حوض شرق المتوسط، سياسياً واقتصاديا،،،


فالاتحاد الأوربي يبحث بشكل دائم علي تنويع مصادر استيراده للغاز والطاقة بصفة عامة، وان محدودية اعتماده علي روسيا تضعه دائما تحت تدويل سيادة قراره لصالح الأخيرة، ولذا، نجد الإنحياز الكامل للاتحاد الأوربي يميل سياسيا لصالح اليونان وقبرص وشركائهما. كما تعمل روسيا علي الحفاظ علي تصدرها لتصدير الغاز وضمان حصتها ومنافستها بالأسواق الدولية بمستويات عدة، كالتمويل والتنقيب والمشاركة والاتفاقات الثنائية، وأصبحت تمثل المساحة الأكبر والثقل الذي يرجح الكفة لاي من اطراف النزاع. كما تأتي الولايات المتحدة الأمريكية بالقوة العسكرية والسياسية والاقتصادية وتمكين دورها عبر شركاتها الاستكشافية عابرة القارات، وقد أسست عام 2019 قانوناً تحت مسمي "شراكة الأمن والطاقة شرق البحر المتوسط" يمنح أمريكا لعب دور أكبر وأكثر جدية وفاعلية ويخفف من قدرة روسيا في مستقبل تلك الإكتشافات بالحوض المتوسطي، ويزيد من قدرة الولايات المتحدة الأمريكية في توسيع قاعدتها وسيطرتها علي الإتحاد الأوربي، حيث تضمن القانون ست مرتكزات وعناصر أساسية داعمة لليونان وقبرص وإسرائيل وهي؛ رفع الحظر المفروض عن بيع الأسلحة لقبرص اليونانية، انشاء مركز للطاقة الأمريكي شرق المتوسط، منح مساعدات مالية عسكرية ومنح تدريبات عسكرية  لليونان، مع منع تركيا نقل مقاتلات اف 35 للضغط علي عدم استمرار تدفقات منظومات الدفاع الجوي الروسي S-400))، هذا بالإضافة لمتابعة أنشطة روسيا بالمنطقة وتقديم استراتيجيات التعاون الأمني والتعاون في مجال الطاقة. 

في الوقت نفسه، فقد شكل التآلف الـ جيو-اقتصادي بشكل منتدي (غاز شرق البحر المتوسط)  بين كل من مصر واليونان وإيطاليا وفلسطين والأردن، تشكيل محور إقتصادي قوي اورومتوسطي، ستكون من ضمن أهدافه تحقيق اقتصاديات نفطية - غازية مشتركة ومؤثرة علي أسواق الإتحاد الأوربي بشكل عام، وعلي تقليص الإعتماد علي الدور التركي والروسي بحوض شرق المتوسط، وهو ما يدور حول تطويق الدور التركي ويدعم بقاء القوتين المصرية واليونانية بالمنطقة. 

برغم كل تلك الخطوات المنهجية الدولية لتطويق الدور الروسي والتركي بحوض شرق المتوسط، الا أن تركيا رفضت كل الإجراءات الأحادية من قبل قبرص اليونانية، وحاولت منع سفن الشركات الأجنبية من التنقيب والإستكشاف في المناطق المتنازع بشأنها، كما شرعت بخطوات المسح والتنقيب في المناطق التي تعتبرها تابعة لها بشكل مباشر او تابعة لها عبر قبرص التركية -أي بشكل غير مباشر-، كما حاولت أيضا تشكيل محور مواز في أغسطس عام 2019 يضم لبنان وقبرص التركية علي غرار التآلف المصري الإيطالي الأردني الفلسطيني، غير أن تلك الجهود لم تحظي بالتوفيق والريادة. 

ختاماً

منحت الاتفاقية الثنائية لترسيم الحدود البحرية بين كل من المجلس الرئاسي المتمثل في الوفاق وتركيا فرصة للطرفين – رغم عدم قانونيته-، ففي حين خسر المجلس الرئاسي ما يزيد عن 90% من الأراضي الليبية لصالح القوة الوطنية الشرعية (مجلس النواب والجيش الليبي) وكان آخرها مدينة سرت وسط ليبيا، والصمام الإستراتيجي لحقول النفط بالشرق الليبي، والساتر لتدفقات النفط وامداداتها شمالا وجنوباً، كما مثلت تقدمات الجيش الليبي بالغرب وتحديداً التوجه نحو تحرير طرابلس نهاية حلم المجلس في البقاء والإستمرار، في المقابل فإن تركيا تجد بأن هذا الاتفاق قد يدفع بالضغط علي دول اوربية بحوض شرق المتوسط وبالأخص إيطاليا، ودول عربية كـ مصر لإعادة تفعيل الدور التركي ومنحه حصة من تلك الثروات الطبيعية، كما سيدفع ايضاً روسيا لإعادة النظر في دعمها وتأييدها لدور الجيش الليبي والانحياز للطرف التركي الداعم للوفاق الليبي، لتفعيل منظومات الدفاع الجوي المتطورة والتي حصلت عليها تركيا مؤخراً، وهو ثقل سياسي وعسكري واستخباراتي بالمنطقة، كما سيدفع أيضا لتوازن الثقل الاقتصادي عبرالاتفاق الممنوح في مواجهة القانون الأمريكي "شراكة الأمن والطاقة شرق البحر المتوسط"، والتحالفات العربية الغربية ومنتدي (غاز شرق البحر المتوسط) الـ جيو-اقتصادي المشار اليه سابقاً. 

وبحسابات غير دقيقة، وبالدخول الي اتفاقيات أمنية وعسكرية -تركيا- لا يقبل شريكا اوربياً، بل يصارع الكبار من أجل البقاء والتوازن والشراكة، شكلت الاتفاقيتان الموقعتان بين كل من حكومة الوفاق الليبي وتركيا اولاً (علي الصعيد الدولي والإقليمي)، مصدر انزعاج ودقتا ناقوس خطر لدول اوربية كـــ إيطاليا واليونان وقبرص وبالتالي الولايات المتحدة الأمريكية، واخري عربية ومنها دول الطوق كـ مصر وتونس، وثانياً (علي الصعيد المحلي)، استلهب واستفز مشاعر وطنية دفعت الكثير لتغليب المصلحة العامة والسيادة الوطنية والهوية الليبية والدفاع المشروع عن الوطن، معتبرين ما سيحدث هو إعادة استعمار مبطن، وتحول الصراع من كونه حرب بالوكالة الي حرب مباشرة، وهو ما سيشكل تهديد كيانات الدولة الليبية ومواطنيها واستقرار الأمة، ولذلك فقد مثل الاتفاق الأخير (العسكري – الأمني) رصاصة الرحمة لما تبقي من صلاحيات مشروعة للمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق علي صعيد دولي واقليمي ومحلي، وبالتالي قضي السراج ورفاقه علي خطوط الإمداد الأولي، بكافة خيوطها، سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وبات شركاء الوفاق بالأمس وصانعي الصخيرات والإتفاق السياسي يبحثون عن خطط بديلة للتخلي عن اتفاقيات لم تعد فيها الكثير من الرجاء، ولم تعد تضمن مسار مصالحها في مستقبل العلاقات الدولية. 

تقديري واحترامي


الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة