كشفت أزمة ناقلة النفط الكورية فى ميناء السدرة, عن حجم المأزق الذى تعيشه ليبيا ويهدد بدفعها إلى طريق الدولة الفاشلة التى تنهار فيها المؤسسات لمصلحة الميليشيات المسلحة,

 

وتطرح التساؤلات حول مستقبل البلاد فى ضوء التحديات الضخمة التى تواجهها وتلقى بتداعياتها السلبية داخليا وخارجيا.فحادثة ناقلة النفط الكورية ليست مفاجئة بل هى نتيجة طبيعية لأزمة موانى النفط الرئيسية فى البلاد, تضم السدرة ورأس لانوف والزوتينة فى الشرق, وميناء الشرارة غرب البلاد, والتى سيطر عليها المسلحون فى نهاية يوليو الماضى وتسببوا فى توقف صادرات النفط الليبية وتراجعها من 1.6 مليون برميل يوميا إلى 345 ألف برميل, وقد تطورت مطالب المسلحين من توفير فرص عمل لهم ومناصب إدارية إلى التسييس وتحصيل صادرات النفط لمصلحة تلك الجماعات خاصة إقليم برقة, حيث أعلن إبراهيم جثران قائد المجموعة المسيطرة على الميناء, أن عوائد النفط ستذهب للإقليم الذى يحتوى على 80% من إنتاج النفط فى البلاد ويريد العودة للقانون79 لعام 1958 بزيادة نصيبه لـ15%.

وقد عكست أزمة النفط تحديا واضحا للدولة الليبية وقدرتها على بسط سيادتها ونفوذها على مؤسساتها وأراضيها, فالسفينة جاءت فى إطار تعاقدى بين مالكها وبين سلطات اقليم برقة للحصول على النفط بسعر رخيص, كما أن تهديد رئيس الوزراء على زيدان باستخدام الدولة الخيار العسكرى لإجبار السفينة على المغادرة وإلا تعرضت للتدمير,يوضح حدود وقوة الدولة, حيث رد المسلحون بأن استخدام سلطات طرابلس القوة بمثابة إعلان حرب, كما أن الأزمة الأخيرة توسع الصراع من سيطرة الميليشيات المسلحة على المدن إلى السيطرة على النفط ومحاولات خنق الدولة وإفشالها, حيث تعتمد على 90% من عوائدها على تصدير النفط.

وهكذا فإن الدولة الليبية فى اختبار ومأزق حقيقى متعدد الأوجه, فمن ناحية لا توجد حتى الآن مؤسسات مركزية سواء أمنية أو اقتصادية تمثل كيانا للدولة بمفهومها المعروف, فلا يوجد جيش موحد يضم كل الميليشيات المسلحة قادر على الدفاع عن حدود البلاد، ولا جهاز شرطة قادر على بسط الأمن الداخلى والقضاء على ظاهرة الميليشيات المسلحة فى الشوارع التى تسيطر كل منها على مدينة ومنطقة خاصة بها,ودخلت فى صراعات فيما بينها, بل وصل الأمر إلى احتجاز رئيس الوزراء نفسه عدة أيام, والهجوم المتكرر على مقر المؤتمر الوطنى (البرلمان), ومن ناحية ثانية تواجه العملية السياسية والمرحلة الانتقالية عثرات شديدة فى ظل الصراع بين المؤسساتية والقبلية وبين الاتجاهات الدينية والمدنية, ولم تنجح الدولة حتى الآن فى بناء مؤسسات سياسية أو أحزاب لتحل محل الثقافة القبلية, وكذلك فى الصراع بين أنصار نظام القذافى وأنصار ثورة 17 فبراير, فى مباراة صفرية يحاول كل منهما القضاء على الآخر, وزاد من حدة الاستقطاب قانون العزل السياسى الذى يشمل 600 ألف مواطن من النظام القديم, كما أن تنامى نفوذ تنظيم القاعدة والجماعات الدينية المتشددة خاصة فى الشرق بات يهدد إعادة بناء الدولة.

وبعد ثلاث سنوات من الثورة أصبح المشهد الليبى مملوءا بالألغام, سواء الميليشيات المسلحة أو الجماعات المتطرفة أو خطر تقسيم البلاد بعد إعلان إقليم برقة، أو فشل المؤتمر الوطنى فى استكمال استحقاقات المرحلة الانتقالية.

من هنا فإن مخرج ليبيا الوحيد هو إعادة اللحمة للنسيج المجتمعى من خلال مصالحة وطنية حقيقية وعدالة انتقالية تستوعب جميع أبناء المجتمع, سواء من أنصار نظام القذافى أو أنصار الثورة, مع استبعاد ومحاكمة من تلوثت يده بالدماء من الطرفين,كذلك دفع العملية السياسية إلى الإمام والإسراع بكتابة دستور جديد للبلاد يسهم فى بناء ركائز الدولة الأساسية الإدارية والاقتصادية والأمنية, خاصة الجيش والشرطة واستيعاب جميع أفراد الميليشيات المسلحة, التى ساهمت فى قتال القذافى فى الجيش الليبي, وتوفير فرص عمل لمن يريد الانخراط فى الحياة المدنية, كذلك إحلال ثقافة الديمقراطية والمؤسسات محل القبلية ونظام الجماهيرية السابق، واستيعاب كل أطراف المجتمع من إسلاميين ويساريين وليبراليين فى عملية سياسية تحقق المساواة بين المواطنين وتزيد من مساحة التفاهم المشترك بين الجميع والاتفاق على مستقبل ليبيا بعد الثورة، والتى تشمل الجميع وتدفعهم إلى التكاتف والعمل المشترك لإعادة بناء الدولة والإعمار، وتوظيف موارد الدولة الهائلة من النفط والغاز، وأن يقتنع الجميع بأن منهج كل فصيل فى القضاء على الآخر والانفراد بليبيا هو منهج خطأ وسيؤدى إلى دمار الجميع، بل سيشيع الفوضى ويمهد البيئة لنمو الجماعات المتطرفة ونشاط تنظيم القاعدة.

لذلك خطورة أزمة ناقلة النفط رغم سيطرة الدولة عليها أنها إذا لم تعالج فى إطار رؤية سياسية شاملة تزيل مسببات الأزمة الليبية, فإنها قد تهدد بحرب أهلية شاملة بين الميليشيات المسلحة فى الشرق والحكومة المركزية وانقسام القبائل والميليشيات المسلحة الأخرى فى بقية المناطق وانضمامها لأحد الطرفين المتقاتلين, بما قد يحول ليبيا إلى دولة فاشلة وصومال جديد.