لم أسعد بحضور الندوة التي قدم فيها د. صابر محمد الحسن ـ محافظ بنك السودان الأسبق والاقتصادي المرموق والقيادي البارز في المؤتمر الوطني، وكان قد قدمت بالتعاون مع مؤسسة «أروقة»، وذلك لأنني كنت متوعكاً وعكة خفيفة، وقد لفت انتباهي للورقة أخ كريم من هيئة علماء السودان، وأكد لي على أهمية ما جاء فيها، وأشار أيضاً إلى مقال د. عبد الله الرمادي الذي نقد وحلل تحليلاً علمياً رصيناً ورقة دكتور صابر. ولقد تتبعت ورقة د. صابر في مواقع مختلفة واطلعت على اجزاء كبيرة منها وتحليلات كثير من الكتاب والمحللين والمهتمين بالشأن الاقتصادي، وفي البداية أحب أن اعترف بأنني لا أحسن دندنة د. صابر ولا دندنة د. عبد الله الرمادي، وهما يتعمقان في المصطلحات الاقتصادية ويبحران في أعماق القضايا ذات الشأن باقتدار وبراعة، أما أنا فلا حسن إلا الدندنة من على البعد حول هذه المصطلحات والمعارف، لكنها دندنة لا بد منها، وربما تتميز بالسهولة في التعبير وتبسيط المعاني والنماذج. وأول ما أبدأ به الدندنة حول التعريف، فقد وجدت د. صابر قد ولج مباشرة إلى أسباب التضخم، ولم أعثر على تعريف له للتضخم، وأبدأ بتعريف التضخم بدندنة خاصة هي خلاصة هذه الحكاية.  في عام 94م وفي صباح يوم عادي خرجت من منزلي ذاهباً إلى مكان العمل، وأخرجت من جيبي ورقة من فئة العشرة آلاف جنيه لزوجتي مصروفاً لذلك اليوم، ولأول مرة آراها تقلبها وتنظر إليها مستقلة ولسان حالها يقول «وماذا تصنع هذه» ودون أن أشعر مسكتها من يدها وأجلستها وقلت :«تصوري عندما تزوجتك كان راتبي ثلاثة وعشرين جنيهاً، كان ذلك عام ستة وستين، وكنت معلماً بالمرحلة المتوسطة وطالباً بالجامعة الأمريكية في بيروت، وكان هذا المرتب يكفي الأسرة تماماً ويبقى منه فائض قليل. هل تصدقين أن هذه الورقة من فئة العشرة آلاف تعادل مرتب أربعين سنة من راتب عام ستة وستين، والآن هي لا تكفي لمصروف يوم واحد».

{ هذه دندنة حول تعريف مفهوم التضخم وليست دندنة أهل التخصص، وأرجو أن يكون ذلك إضاءة  حقيقية لمفهوم التضخم.
{ أما تعريف أهل الشأن فيتراوح ما بين:
1/ الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار وارتفاع التكاليف.
2/ ارتفاع الدخول النقدية أو الإفراط في خلق الأرصدة النقدية.
3/ تدهور القوة الشرائية للنقود الناتج عن أسباب مختلفة.
{ الذي يهمنا هنا هو اعطاء صورة حقيقية ومثال واضح للمواطن العادي حول مفهوم التضخم، والمثال المشهور جداً هو أن تحمل نقودك في جوال وتعود بالسلعة التي اشتريتها في جيبك.
{ ولج د. صابر إلى أسباب التضخم واجملها في ستة أبواب هي:
1/ تحركات سعر الصرف. 2/ التوسع النقدي، ويعني زيادة الكتلة النقدية دون ان تقابلها زيادة في الانتاج. 3/ تكاليف الإنتاج المرتفعة، ولدينا وقفة واستدراك مع دكتور صابر حول هذا السبب. 4/ زيادة الإنفاق العام وعجز الموازنة. 5/ التضخم المستورد. 6/ التوقعات التضخمية
 وإنه لمن المفيد أن نعرج على الإضاءة التي وردت في مقال د. عبد الله الرمادي تعليقاً على ورقة د. صابر، حيث قال د. الرمادي إن الأسباب الثلاثة الأخيرة من المسلمات التي لا ينبغي ان يختلف حولها اثنان ولكنه استدرك على د. صابر في الثلاثة أسباب الأولى:
1/ يختلف د. الرمادي مع د. صابر في أن الورقة حملت المسببين «تحركات سعر الصرف» و«التوسع النقدي» المسؤولية الكبرى في التسبب وإذكاء حدة التضخم، وأهملت تماماً المسبب «تكاليف الإنتاج المرتفعة».
{ وأنا اتفق مع د. الرمادي في بعض ما قاله واختلف معه في البعض الآخر.
1/ اتفق مع د. عبد الله الرمادي في اتفاقه مع د. صابر في الثلاثة أسباب الأولى في أنها مسببات للتضخم، إلا أن سعر الصرف لا يكون سبباً للتضخم إلا في حالة واحدة، وهي أن تعلن السلطات النقدية عن تخفيض سعر تبادل العملة الوطنية، وفيما عدا ذلك يكون التضخم سبباً في زيادة سعر الصرف وليس ناتجاً عنه.
2/ والذي فات على الأستاذين أن هناك معاملاً اخلاقياً متعلقاً بوجود أو عدم وجود مبررات لتخفيض سعر العملة المحلية.
وما قيل عن المعامل الأخلاقي في سعر الصرف يمكن يقال بنفس القدر حول التوسع النقدي، إذ أن افتقار الاثنين للمبرر الأخلاقي هو السبب الحقيقي لارتفاع درجات التضخم. 
الاقتصاديون المعاصرون ينظرون إلى تعديل سعر الصرف والتوسع النقدي نظرة أكاديمية مجردة عن المبررات الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية والدينية.
 المعامل الأخلاقي هنا يتدخل لأن المستفيد من هذه التعديلات النقدية ليس هو المواطن إنما شاغلو المناصب والكراسي أياً كانت.
3/ بالرغم من أن استدراك د. الرمادي  على ورقة د. صابر في ما يتعلق بارتفاع تكاليف الإنتاج وأثره على التضخم، إلا أن د. الرمادي نفسه ترك لنا ما يمكن أن نستدركه عليه، صحيح أن ارتفاع تكاليف الإنتاج في الدولة المعاصرة أياً كانت يؤدي إلى زيادة معدلات التضخم، ولكن السبب الحقيقي ربما فات على الأستاذين أو لعلهما لم يقفا عنده، ألا وهو أن زيادة تكاليف الإنتاج تكون غالباً على حساب المستهلك وليست لصالحه ولا لصالح الإنتاج، كأن تكون زيادة تحكمية أو ليست متعلقة بجودة المنتج ولا بوفرته، لأنها لو تحققت فيها هذه المزايا لما ادت إلى ارتفاع معدلات التضخم، وهذا يقودنا مرة أخرى إلى المعامل الأخلاقي الذي هو صاحب الأثر الأكبر في ارتفاع معدلات التضخم.
{ في رأينا المتواضع أن الأسباب الحقيقية للتضخم والمرتبطة بالمعامل الاخلاقي تتمثل في:
أولاً: ارتفاع التكاليف التشغيلية غير المرشدة.
ثانياً: زيادة حجم الطلب النقدي بما لا يقابله من زيادة في الإنتاج مما ادى إلى رتفاع الاسعار. وله حالات طبيعية ترياقها هو اللجوء إلى المعامل الأخلاقي في المعاملات وسنعرض لها قريباً، وحالات أخرى غير طبيعية وهو ما تعاني منه الدولة المعاصرة. إذن يمكن القول إن التضخم هو الزيادة غير المبررة في السعر على حساب المستهلك.
ثالثاً: من أسباب التضخم الحصار الاقتصادي والمجاعات والكوارث الطبيعية والحروب، وهذا النوع من التضخم يحدث غالباً وبصورة مبالغ فيها في الدولة المعاصرة التي لا تبني اقتصادها ولا علاقاتها الإنتاجية والاجتماعية على قيم الدين والأخلاق، وإنما تبنيها على المكاسب والأرباح الآنية.

 

عن « الإنتباهة » السودانية