برهان هلّاك

قد تقع جزيرة جربة جغرافيا جنوب شرقي تونس لتتبع محافظة مدنين وتبعد نحو 150 كيلومترا عن الحدود مع الشقيقة ليبيا، ولكنها تقع من وجدان محدّثكم موقع المالكة لقلبه والآسرة لوجدانه. وعليه فإن هذه الأسطر تفوح بعبق هيام يماثل هيام زهر عباد الشمس بخيوط ضوء الكوكب الملتهب إذ يتتبعها يمنة ويسرة.

إن لهذه الجزيرة منفذان أوّلهما يتخذ من المكون المائي أساسا، أي من جهة منطقة "آجيم" عبر العبّارات القادمة من منطقة "الجرف"، وثانيهما يسلك فيه العابرون إلى الحبيبة جربة طريقا ذا مكون ترابي يتوسّل "الطريق الرومانية" من جهة "جرجيس"، وهي الجهة الشرقية للجزيرة. وأما عن طريق "أغير" المؤدي إلى وسط مدينة "ميدون" بالجزيرة فهو "طريق إلى الفردوس" كما يصدح ليد زبلين في أغنيته الشهيرة، وهو كذلك تمرين على استكناه السعادة؛ بين النخيل الشامخ في وجه الموت والبحر الذي تنبعث منه سمفونيات زرقاء وبين الحوت الأزرق وموسيقاه في أعماق المياه، سوف تعلم، أو هكذا يُخيّلُ إلينا على الأقل، أن النخيل أخ الشهامة وأن نسيم البحر رديف للطمأنينة وأن الحوت الأزرق ينتصب حارسا على كنوز الجزيرة فلا ينهبها الغزاة وعديمو الذوق ممن يقارنون صفاء المياه بصفاء الأحجار المشكوك في كرامتها.

وأما بحر الجزيرة فهو من أعظم الخلّان الحقيقيّين للإنسان؛ لطالما اعتقدت أنه إمّا أن يحثّك على الإنبثاق كوجود حرّ، و إمّا أن يغريك بالبحث عن الدّفء في منتصف شتاءات مدن الغيب المعمّم. إن للبحر بجربة وظيفة جنسيّة شاعرية يستحضر فيها الحالم الأنثى حول ضفاف ماء قطع إبيستيمولوجيّا مع خصائصه الأحيائية من حيث انعدام الرّائحة إذ صار مختلطا بروائح الغبطة و الرغبة كما يزعم "غاستون باشلار ". وفي أحيان أخرى، تتحسّس بحار الجزيرة التي تحتضنها في عناق أبدي تبرّما بالوجود فتبتلعك في سكون دون أيّ اعتبار لمشاعر الأسى عليك، فهي مسطحات مائية تتعالى على رثاء محدود الغيريّة يبكي فيه عادة الإنسان الإنسان، لا لفقده، و إنّما لخوفه ممّا قد يلحق به عند غياب ذاك الغير، و ذلك مبحث آخر في إيتيقا الموت و السّعادة...

وإذا كان الإنسان يُحدُّ فعلا بما يأكل حسب زعم فيورباخ، فإن "الأرز على الطريقة الجربية" العبقرية في دمجها للصنوف واعتناقها للمختلفات لهو جزء كبير من هويتنا؛ إن تقطيع الخضروات مكعبات صغيرة في إناء واسع لهو تفكيك للأشياء بغية إعادة دمجها في واحد متعدد وجوهر مكوّن من عديد القطع المختلفة والمتآلفة. وإن سحق أوراق النعناع المجففة على مزيج الخضروات والأرز قبيل طبخه على البخار هو فسخ وتجاوز لكل مزاعم عدم إمكان التوفيق بين مناخ الجزيرة الجنوبية القاسي أحيانا والمذاقات المنعشة لأعشاب هذه الأرض الطيبة. وأما أوراق الغار المضافة فتلك دليل على أن البهاء لا يكمن بالضرورة في الخضرة بل هو كامن أحيانا في عروق وألياف الأشياء مادامت تملؤها إرادة القوة.

وأما بعض موزعات السعادة من حانات الجزيرة فهي تنشئ في الجسد نشوة فطرية غير مكتسبة عند مصافحة أولى، وثم ملذات وحشية في تلاعبها لذيذ المكر بالرّأس. مثل معالم هذه الجزيرة هي ذات قدرة على أن تحفّز في المرء نزعات أدبية إيروسية وتدغدغ مناطق إستثارة خفية كإستعارات الهدنة في حروب الجزيرة مع النصوص التي لم تكتب عنها بعد. إن الكلم يستحيل إحترابا في جوف المطلق اللغوي إما تناشجا وتنافرا، وإما تطابقا ومواءمة. إن حانات الجزيرة هي كل ذلك، و أبعد!

إن جربة هي كل ذلك، وفي ذلك نتفق نحن ورائد الأدب الفرنسي العظيم "غوستاف فلوبير"؛ عند زيارته لجزيرة جربة، وصف غوستاف فلوبير قطعة الجنان الأرضية تلك بأنها جزيرة ترفل في حُلّة يزخرفها غبار الذهب والخضرة ولون الأطيار التي تنعم بسمائها. كما قال أنّ فيها أشجار ليمون باسقة تعاند في ارتفاعها أشجار الأرز المهيبة. ويخلص الأديب الفرنسي في الأخير، كحالنا نحن ولا شك، إلى أن الهواء الجزيرة عليل وعلى درجة من العذوبة لدرجة تمنع عن المرء شبح موت دائم التربّص. إن نسيم البحر ذاك كلي الحضور بكامل الجزيرة، وإن رقة في الهواء وهذه الشمس المتواطئة والمثبتة لتجعل من اللذائذ وعدا صادقا يتواطؤ المرء والجزيرة كذلك على اعتناقه. إن القاعدة العامة تقول أنه إذا ما أُتِيحَ للمرء مغادرة جزيرة جربة، فإنما ذلك يكون يقينا من أجل عودة في المستقبل أكيدة، بل ومرتقبة.

وأما عن عاصمة الجزيرة، وهي مدينة "حومة السوق"، فكلّ ما فيها جميل؛ السواحل الرملية البيضاء و"المنازل الجربية" ذات التصاميم البديعة في صمودها في وجه التجاوز الجمالي الذي يهّدد به مرور الزمن كل الابداعات البشرية. إن النقاء ليجتاح المكان فيصيّر كل حيل "صغار الكسبة" هباء لا يزعج المقل ولا تنفر منه الأذواق. سيذهل كل من قدم إلى المدينة بشوق ولهفة عظيمتين من الجمال والبهاء الذي تفيض به الأشياء واللوحات؛ ذاك قارب صيد نائم حتى يأذن له الفجر بالنشاط، وتلك إمرأة ترتدي ألف لون. وذاك مشهد تنغمس فيه كل الحواس لبهارات مشعّة تنضح عنها خلطات روائح ليست بالضرورة زكية أو منفّرة، بل هي تأكيد على أن الهويّة هي ما نصنع وما نسمح له بأن يَحُدَّنا. ويربض على التخوم البحرية لهذه المدينة برج (حصن) الغازي مصطفى يحرسها ويقاسمها سهر لياليها البهيجة والحزينة على حد السواء؛ البرج الكبير أو الحصن الإسباني كما يعرف هو حصن أمر ببنائه نائب ملك صقلية ودوق مدينة سالم، خوان دي لا سيردا، عام 1560، أي قُبيل حدوث معركة جربة بين القوات العثمانية من جهة والتحالف المسيحي المتكون من إسبان وبندقيين وجنوبيين ونابوليين وصقليين وفرسان مالطة من الجهة المقابلة. ويعتبر محيط الحصن اليوم فضاء ثقافيا لسكّان جزيرة جربة حيث يوجد بجواره "مسرح الهواء الطلق" الذي تقام فيه الحفلات الغنائية الكبرى في الصيف، والذي يحتضن كذلك عددا من المهرجانات الثقافية والاحتفالات.

"الكل من حوض جربة كان مشربهم 

والكل يقصدها من هاو ومحتسبِ

فعاشت ديارك يا جربة عامرةً

وعشتِ مجلية للضيق والكرب"

هذا ما نظمه الشاعر الليبي علي عمر الدبسكي النفوسي في تعداد محاسن الجزيرة، وهي جديرة بكل ما قيل فيه وما لم يقل بعدُ. وستفتن جربة كل من يهلّ بأراضيها، ولعل في إلتقاء روافد ميثولوجية عدة بعض ما يفسّر مثل هذا الافتتان الشبيه بافتتان بحارة هوميروس بأصوات حوريات البحر الساحرة وشديد الجذب؛ تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن البشرية اكتشفت النسيان في جزيرة جربة الواقعة على الساحل الجنوبي لتونس. لقد هام "أوليس" في البحر هربًا من بطش الطرواديين الذين أراد خداعهم والاستيلاء على مدينتهم بواسطة حصان خشبي عملاق خبّأ داخله مجموعة من الجنود. ولمّا اكتشف الطرواديون حيلته، هرب "أوليس" وتاه في البحر لمدة تسعة أيّام حتى رسى في اليوم العاشر على شاطئ الجزيرة. ولم يشأ "أوليس" النزول، لكنه أرسل اثنين من جنده لاكتشاف المكان فوجدا نفسيهما في أرض عامرة بالسّكان ويعمّها النخيل والبهاء والسّلام. وكان أهل الجزيرة من قبائل "آكلي اللّوتس"، واللّوتس ليس تلك الزهرة التي مجّدها الفراعنة وتغنّى بها شعراء الصين القدامى، وإنها هو نوع من التّمر لا يزال موجودًا إلى اليوم. ومن فرط جمال الجزيرة والانشغال بأكل ثمرة اللّوتس، يذكر مقال بموقع "إلترا صوت" أن الجنديين نسيا مهمّتهما، كما نسيا السّفينة والوطن والعودة إلى البحر وأصبحا يعيشان في كهف النسيان. فما كان من "أوليس" إلا أن نزل بنفسه للبحث عنهما، وكاد هو الآخر أن يقع في حبائل النسيان لانشغاله ببهاء الجزيرة والحفاوة التي لقيها من "آكلي اللّوتس".