من تونس جاءت أولي ثورات العرب في القرن الحادي والعشرين‏.‏ وقد تمكنت من الإطاحة بالطاغية بن علي في أقل من شهر واحد‏,‏ ففتحت باب الأمل للتخلص من المزيد من الطغاة في المنطقة‏.‏

 

وطرحت علي جدول أعمال شعوبها إدراك ما تخلفت عنه من الانتقال الي الديمقراطية وبناء الدولة المدنية الحديثة إلي العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وكرامته.
ولقد أثبتت التجربة التونسية أن التخلص من الأنظمة المستبدة الفاسدة والتحول إلي نظام ديمقراطي ليس بسهولة وسرعة التخلص من طاغية حكم البلاد لنحو ربع القرن. فالدستور الذي صدرهذا الأسبوع بأغلبية تفوق ثلثي المجلس التأسيسي المنتخب ومن دون حاجة الي استفتاء كان مقررا ان ينتهي انجازه في عام واحد من انتخاب هذا المجلس.. أي قبل23 أكتوبر.2012 لكن تونس عاشت15 شهرا إضافيا من المخاض العسير والصراعات حتي تتوافق نخبها السياسية وقواها المجتمعية علي نص دستور من149 فصلا( مادة) فقط. وعلي هذا النحو فقد ألقي علي البرلمانات المقبلة( مجلس نواب الشعب) المزيد من مهام استكمال البنية التشريعية للتحول الي الديمواقراطية وتحقيق أهداف الثورة.
بالقطع فإن الدساتير ليست نصوصا مقدسة غير قابلة للنقد والتعديل. وفي حالة الدستور التونسي الجديد قد تكون هناك انتقادات من قبيل أنه لم يلب مطلب العدالة الإجتماعية بشكل كاف أو غيرها. لكن الدستور الجديد حصن نصوص مدنية الدولة والحريات وحقوق الإنسان من أي تعديل أو انتقاص. كما حصن عدد الدورات الرئاسية( مدتان متصلتان أو منفصلتان ومدة الدورة خمس سنوات) من أي تعديل أو زيادة. كما أغلق الدستور الجديد الطريق علي محاولات إدراج الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع أو علي أي مزايدات أو متاجرة بالدين الحنيف واقحامه في شئون الدولة و الحكم. تماما مثلما عمل في تحصين المساجد ودور العبادة من الاستغلال الحزبي ومنع دعوات التكفير والتحريض علي الكراهية والعنف.
هذه المكتسبات وغيرها بشأن الدولة المدنية ما كان لها أن تجد ترجمة في الدستور الجديد لولا تطور التيارالرئيسي في الحركة الإسلامية بتونس( النهضة). وحيث جاء برنامجها لانتخابات المجلس التأسيسي خاليا تماما من المناداة بالشريعة أو من الدعوة للانتقاص من مكتسبات المرأة في المساواة. وكذا لولا يقظة القوي الليبرالية واليسارية التي وقفت بالحوار والنضال السياسي لا بالتحريض الإقصائي وعلي الانقلاب ضد أي محاولات من داخل النهضة للارتداد عن برنامجها الانتخابي والاخلاص للدولة المدنية أوللانخراط في لعبة الخطاب المزدوج.
قطعا لم تكن الصورة مثالية تماما. لا من جانب حزب حركة النهضة ومجمل الحركات الإسلامية ولا من جانب الأحزاب والقوي العلمانية. وقعت أخطاء من الجانبين. وكانت هناك نيات غير خالصة هنا وهناك. وارتفعت دعوات اقصاء وتحريض للجيش علي التدخل في السياسة والانقلاب علي مسار الانتقال. وجرت متاجرات بالدين وبافتعال عقدة الهوية الإسلامية أربكت التحول الديموقراطي. واغتيل معارضون كالشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي. وحاول سلفيون شد المجتمع كله الي الخلف. وضرب الإرهاب الأصولي الإسلامي هنا وهناك. لكن حمدا لله فإن أحدا ذا وزن لم يوظفه كفزاعة لترويع المجتمع و كي يرتمي المواطنون البسطاء في أحضان بطل منقذ. وفي المحصلة والختام توافق التونسيون أو معظمهم علي طريق وعلي دستور, وعلي إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في ظل حكومة محايدة محل قبول من الفرقاء.
في لحظة أو أخري بدا دعاة الإقصاء الأعلي صوتا. وبدت تونس علي أعتاب صدام مروع بين الإسلاميين وخصومهم. لكن تغلب في النهاية قبول الآخر واحترام الحقوق والحريات. فضلا عن الوعي علي الضفتين بأن حكم البلاد وإدارتها بعد ثورة ما زالت تصارع الدولة القديمة والثورة المضادة, عبء لا يمكن ان يتحمله فصيل أو تيار واحد. وهو ماأكده عليه راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة لكاتب المقال حين التقاه في تونس خلال نوفمبر2012, فأقر بحاجة بلاده الي حكومات ائتلافية لخمس سنوات علي الأقل بعد الدستور الجديد والانتخابات التالية. هكذا لم تقع النهضة تحت إغراء الانفراد بالسلطة والتكويش علي مؤسسات الحكم, مع انها حزب الأكثرية في انتخابات23 أكتوبر.2011 ومن هنا جاءت صيغة الترويكا الثلاثية الحاكمة مع أكبر حزبين علمانيين فازا في انتخابات المجلس التأسيسي. وتوزعت رئاسات المجلس والحكومة والدولة. ومع كل أخطاء النهضة ومع تآكل نصيب حليفيها في عضوية المجلس التأسيسي وبروز أحزاب وقوي سياسية معارضة خارج المجلس وتحت قبته, عادت واضطرت الي تنازلات من أجل التوافق الوطني. فتخلت عن رئاسة الحكومة. بل وقبلت بحكومة محايدة تدير الانتخابات المقبلة.
ولأن الدساتير ليست ببهاء النصوص وحدها. فإن واقع الحقوق والحريات في الشارع هو الاختبار الحقيقي لمصداقية نصوص الدستور التونسي الجديد.وليس بالكلام في الغرف المغلقة وتحت قبة البرلمان أو أمام شاشات التليفزيون.