برهان هلّاك

تخوض تونس غمار مرحلة جديدة بعد عام من التدابير الاستثنائية التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد. وقد أظهرت نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 25 جويلية 2022، بالتزامن مع الذكرى السنوية لعيد الجمهورية بتونس، تأييد الناخبين التونسيين للتعديلات الدستورية المذكورة بنسبة ناهزت 94 في المائة. ورغم أن نسبة المشاركة في الاستفتاء، وفقاً للتقديرات الأوّلية لهيئة الانتخابات، فاقت 30 في المئة بقليل من إجمالي الناخبين التونسيين المسجّلين، إلا أن الرئيس قيس سعيّد قد اعتبرها “انتصاراً” للعملية السياسية التي انطلقت في 25 جويلية من العام الماضي. في الآن ذاته، جاهرت قوى المعارضة، ممثلة بالأساس في حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني وعدد من المنظمات الحقوقية، برفضها لمسار إجراء الاستفتاء ومخرجاته، بل واتهمت الرئيس التونسي بالسعي إلى إقرار دستور يتوافق مع طموحاته السياسية؛ بالتالي، تكون نتائج الاستفتاء التي أقرت تحول البلاد لجهة النظام الرئاسي، في إشارة إلى ثقة الناخبين في عودة سلطة تنفيذية موحدة وقوية بصلاحيات كاملة، حمّالة دلالات خاصة في ما يخص التركيبة النفسية للتونسيين في علاقتها بنظام الحكم وواجهته الرسمية.

إن من أبرز الدلالات التي تأييد الناخبين للتعديلات الدستورية تلك المتعلقة باستعادة مؤسسة رئاسة الجمهورية لعنفوانها إن صح القول. ونعني بذلك موضعة الرئيس قيس سعيد في منصب “الرجل القوي” على رأس السلطة (أو بالأحرى الوظيفة) التنفيذية لهذه الجمهورية الثالثة، وهو ما يسنده كل تلك الصلاحيات الواسعة التي بات يمتلكها بحكم دستور حيّدته فصوله عن أي شبهات ووضعته فوق طائلة أي محاسبة.

في هذا السياق، لم يتخلف قيس سعيد عن الخروج قبل الإعلان الرسمي عن النتائج الأولية للاستفتاء للإشادة بعبور التونسيين "إلى مرحلة جديدة من التاريخ" حسب عبارته. ولكن هل أن تلك هي مرحلة جديدة من التاريخ بالفعل؟ 

في تصريح لاندنبندت عربية، أشار النائب السابق في البرلمان، هشام الحاجي، إلى اعتقاده بأن تصويت التونسيين لسلطة تنفيذية قوية يعود إلى "شعور يغذيه الحنين إلى رمزية رئيس الجمهورية"، مستحضراً شخصية "الزعيم الحبيب بورقيبة في الوجدان الشعبي التونسي باعتبار أنه هو الذي حكم في ظل نظام سياسي عماده السلطة التنفيذية التي تتمحور حول شخص رئيس الدولة. "لم يتقبل التونسيون رئيساً منزوع الصلاحيات (في النظام البرلماني)، وغير قادر على اتخاذ القرارات. لذلك فقد تدافعوا نحو التصويت لصالح سلطة تنفيذية قوية" وذلك ما إن سنحت الفرصة لذلك.

ويحاول المناصرون تجميل الوضع بالتأكيد على أن  هذا الدستور الجديد المفعم بصلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية سيمثل ضامنا لاستقرار الدولة ومؤسساتها إذ ينهي عشرية يكلّلها الفساد وتعاقب المنظومات السياسية الفاشلة والتدمير الممنهج، وغير الممنهج، لمؤسسات الدولة واقتصادها وأمنها الاجتماعي. بيد أن الواقع يفرض النظر في دلالات إعادة السطوة" للمؤسسة التنفيذية الواحدة، وذلك عبر النظر في الجروح الغائرة للنفسية الجمعية في تونس والتي تسببت بها تجربة انتقال ديمقراطي مفرغة من معانيها الأخلاقية قبل القانونية والاقتصادية ـ الاجتماعية حتى؛ إن تجربة الانتقال الديمقراطي المغشوش قد رسمت صورة قاتمة للنظام البرلماني عبر أن كرست انطباعاً بفشل هذ النظام في إدارة الدولة. وهو ما حدث بالفعل إذ تشتت السلطة وبات من الاستحالة في بعض الأحيان إدارة الدولة ومؤسساتها، وذلك في ظل محاصصات حزبية يمليها التقاء المصالح أو تنافرها، ومنطق توزيع الغنائم واشتراء الذمم والولاءات في التعيين على رأس إدارات ومؤسسات الدولة.

بالإضافة إلى ذلك فإن الثقافة السياسية، والذائقة النفسية الجمعية في تونس، لهي ميالة بالأساس إلى الانصياع للسلطة الأبوية التي يلعب فيها الأب/الرئيس دوراً محورياً؛ لم ينجح التونسيون في "قتل الأب"، بل وحرص المارون على السلطة في البلاد ألا ينجح التونسيون في هذا المجال. كنتيجة لذلك، أضحينا كلنا مرتهنين إلى مستقبل يأتي فيه الأب المنقذ القادر على إدارة شؤون الدولة، وهو الذي سننصاع له بالكامل وسنسلمه كامل الصلاحيات، حتى وإن لم نفقه ما يعدنا به في أغلب الأحيان، طمعا وتوقا ورغبة في الإنجاز الفعّال الذي "لا يستطيع إتيانه من هم دونه".

ولكن، والحق يقال، ليست الذائقة والتنشئة الجمعية للتونسيين هي "الملوم" الوحيد على مثل هذه الانتكاسة في طريقة تنظيم الشأن القانوني والسياسي للدولة التونسية. فمثلا، يمكن اعتبار اعتماد الغموض وعدم الإفصاح عن الإجراءات الحقيقية المعتزم تنفيذها طريقة عمل للرئيس/الأب تضمن مثل تلك الهالة القدسية على شخصه القائد لهذه العائلة/المجتمع؛ لا شيء واضح حول طبيعة الخطوات المقبلة الذي سيقدم عليها الرئيس في الوقت الحالي مثلا، رغم تشديده على ضرورة إعداد مرسوم يتعلق بالانتخابات لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب القادم وانتخاب أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم الذي يقتضي نظاما انتخابيا خاصا. كما توحي نبرة الأمر التي يحرص الرئيس على استعمالها بشكل دائم في مخاطبة رئيسة الحكومة، نجلاء بودنّ، على مثل ذلك المسعى لتوطين "الريادة والقيادة الأبوية " في النفسية التونسية. وقد كان ذاك هو الواقع حينما أعلنت مصالح رئاسة الجمهورية التونسية عن مقابلة الرئيس لرئيسة الحكومة الأربعاء 27 جويلية 2022، يومين إثر انتهاء الاستفتاء، و"توجيهها" إلى "ضرورة" إعداد مشروع نص آخر للمحكمة الدستورية.

وفي نفس إطار العمل على تعزيز صورة الرئيس/الأب، ما إنفك الرئيس قيس سعيد يؤكد على "حماية قوت الشعب من الذين يريدون تجويعه والتنكيل به"، وفي ذلك استفادة مما تعلمنا إياه مراكمات التجربة التاريخية للسلطة في مواجهة الجوع في تونس؛ تقول الصحفية روعة قاسم في مقال منشور بالقدس العربي أن "شعبية الحاكم في تونس مرتبطة أشد الارتباط بتسهيل حصول شعبه على قوته اليومي وبسعر مناسب وضمان كل وسائل الراحة له". فقد كان هذا الشعب قد غضّ الطرف عن ديكتاتورية بن علي لعقدين من الزمان ما دام يعيش في ظل دولة قوية مهابة في محيطها وتوفر له الأمن والاستقرار والعيش الكريم"، في حين كان قد تمرد على بورقيبة في أواخر عهده وفي مرحلة عجزه عن تلبية المطالب المعيشية بالرغم من السلطة الأبوية التي كانت لهذا الأخير والتي اكتسبها من نضاله ضد الاستعمار وبناء الدولة. لكن، وبمجرد أن ضربت الأزمة الاقتصادية العالمية تونس بداية من سنة 2008، حتى تتالت الانتفاضات على نظام بن علي التي انطلقت بانتفاضة الحوض المنجمي وانتهت بتنحيته عن ترأّس النظام ذات شتاء من سنة 2011.

لطالما أخفقنا نحن التونسيون، لا في قتل الأب وحسب، بل وفي تحديد الديناميات السياسية والنفسية الأخرى التي تخلق ممكنا تاريخيا متعلقا بالحنين إلى صورة الأب/الرئيس، وبإعادة أمجاده حتى وإن غاب عن منصبه ذاك. إن ما حدث بتمرير الفصول في الدستور الجديد المتعلقة بتوحيد السلطة التنفيذية وإسنادها لرئيس الجمهورية التونسية هو بمثابة إعادة السطوة لشخص رئيس الجمهورية أولا وبالأساس باعتبار أنه يتم تمثله واجهة رسمية بوصفه أبا للعائلة/المجتمع؛ إن الموافقة على الفصل الذي يضع من هذا الرئيس فوق طائلة القانون والمحاسبة لهو رد اعتبار ثأري لما "عاناه" الأب، وهو في الآن ذاته حرص على ضمان مكانة الأب/الرئيس المرموقة في أعلى أماكن التراتبية السلطوية.