شرت قبل نحو عام من الان مقالاً مطولاً وبالارقام تحدثت فيه عن آليات النهوض في كل من سنغافورة والمانيا ، وقلت حينها وبكل صراحة أن نهضة المانيا كان مفتاحها التعليم التقني ثم الصناعة، أما نهضة سنغافورة فكان اقتصاد الخدمات هي كلمة السر فيها، وبكل صراحة فالتجربتين الرائدتين يبعدان كثيراً عن ليبيا جغرافياً وزمنياً ، وأن التجربة الرواندية هي الاقرب لليبيا منهما بكثير، وقد قررت في حينها أن أُقوم بتأجيل الحديث عن النهضة الرواندية الى أن تحين الفرصة لذلك وقد حانت.

تُعد رواندا نموذَجاً ناجحاً للنهوض من الركام في القرن الحادي والعشرين بعد الحرب الأهلية الطاحنة التي أتت على الاخضر واليابس خلال العام 1994، والتي راح ضحيتها بين  800 ألف ومليون قتيل من قبيلتي التوتسي والهوتو، وذهب أغلب الذين كتبوا عنها بالقول أنها دولة تبلغ مساحتها 26338 كيلو متر مربع ، وانها مغلقة أي أنها لا تتمتع بواجهة بَحرية ، وانها من بين اكثر الدول شفافية واقلها فساداً، وقبل نحو عامين من الان عادت رواندا مجددًا إلى واجهة الأحداث والسبب بكل بساطة هو ان عاصمتها كيجالي صارت لها مكانة عالمية متميزة بوصفها أنظف وأجمل مدينة أفريقية في العام 2017، وأن مانسبته 99% من السائحين الزائرين للبلاد يشعرون فيها بالراحة والأمان ، 

وهذا مادفع بالسعة الفندقية للنمو بما يزيد على نسبة 1000% خلال الفترة بين 2009 و 2018، ليس هذا فحسب بل أنه خلال الفترة بين عامي 2000 و2015 حققت رواندا  نمواً إقتصادياً ثابتاً في ناتجها المحلي بمعدل 9% سنوياً ، وارتفعت قيمة الناتج المحلي الاجمالي إلى نحو 8.48 مليارات دولار أمريكي في 2016 وحده صعوداً من 2.58 مليار في العام 2005، ومن 1.74 مليار في العام 2000، بعد أن كان 1.29 مليار دولار فقط في العام 1995 غداة الحرب الاهلية الطاحنة، فيما وصل متوسط الدخل السنوي للفرد إلى 1800 دولار، أي أنه إرتفع بمقدار ثلاثين ضعفاً عما كان عليه قبل نحو عشرين سنة، وهذا يعني ان هذا البلد الافريقي الصغير قد أنتقل من فئة البلدان ذات الدخل المنخفض إلى بلد من ذوي الدخل المتوسط، وهذا بحد ذاته إعجاز اكثر من كونه إنجار بالمقارنة مع شح موارد البلد وقصر المدة الزمنية التي انتقلت فيها البلاد هذه النقلة الكبيرة، وقد أنتج النمو الاقتصادي الثابت تراجعاً في معدلات الفقر من 60% إلى 39% و تراجعت نسبة الأمية من 50% إلى 25% ، بالتوازي مع ارتفاع متوسط حياة الفرد الرواندي من 48 عاماً إلى 64 عاماً، وقبل نهاية العام 2018 اطلقت رواندا مشروعها الوطني المتمثل في اطلاق قمر صناعي ليساهم بدوره في وصول الانترنت الى كامل التراب الرواندي وبالاخص المناطق النائية، والذي سيساهم في انتشار التعليم ومحو الامية ونشر الوعي.


ولكن ماغفل عنه الكثيرون من الكتاب والمجتهدين هو انهم لم ينسبو الفضل لصاحبه، فنهضة رواندا ماكانت لتتحقق لولا رئيس البلاد بول كاغامي وتكاثف شعبه معه ، وهو الذي صعد لسدة الحكم منذ 24 مارس 2000 وقاد النهضة الرواندية بنفسه وأشرف على كل تفاصيلها بلا كلل او ملل ، بل أنه أرسى مفهوماً جديداً في افريقيا هو الاول على الاطلاق في هذه القارة ألا وهو حكم الجدارة (او النخبة الادارية ) والذي يعني أن الجميع يعمل مع وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وفق معايير الكفاءة ولاشئ غيرها ، مع وجود نظام رقابة صارمة وفي ظل شفافية كاملة....فهل يعي الليبيون الدرس من هذا البلد الصغير الذي لايمتلك اي موارد  !!!!!!

أخصائي اقتصاديات النقل

الآراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة