بعد تحرير الهلال النفطي ونقل تبعيته لبنغازي بدل طرابلس، صار النفط الليبي فى مقدمة اهتمامات الدول الكبرى، ولذلك المشهد خلفية كبيرة تعود منذ أن تقدم المبعوث الاممي غسان سلامة بمقترح تشكيل مجلس رئاسي من ثلاثة اشخاص (رئيس ونائبين) وحكومة تكنوقراط منفصلة يتم تعيين رئيسها بالإجماع من الرئاسي الجديد، وذلك المكون المقترح أي "المجلس الرئاسي الجديد" سيكون من اختصاصاته اعفاء وتعيين كبار الموظفين والسفراء وعقد الاتفاقات والمعاهدات الدولية على ان يصدق عليها مجلس النواب، وطريقة اختيار "المجلس الرئاسي الجديد" ستكون عبر الترشح في القوائم، وكل قائمة فيها ثلاثة اشخاص يمثلوا الغرب والشرق والجنوب، وبعد الانتهاء من ذلك الطرح عرض غسان سلامة ذلك المقترح على كافة الاطراف الليبية وفى المقدمة مجلس النواب والسويحلي رئيس المجلس الأعلى للدولة حينها. 

   وفى نهاية نوفمبر الماضي رد مجلس النواب بالموافقة، بينما قال السويحلي سنحيل المقترح على لجنة فنية لدراسته، ومن وقتها وحتى نهاية ديسمبر الماضي كانت أغلب أجتماعات السويحلي مع السفير الايطالي وليس مع لجنة فنيه او اعضاء مجلس الدولة، حتى أعلن السويحلي رفض مقترح غسان سلامة، بينما أحتجت كتلة العدالة والبناء (الذراع السياسي لجماعة الاخوان المسلمون) وقالت انها توافق على مقترح غسان سلامة وتعتبره مخرج للأزمة الليبية، وحاولت أقناع السويحلي بالموافقة الا أن السويحلي كان متمسك بقرار السفير الايطالي، الذى ظل يجتمع معه طوال الشهور الثلاث الاولى من العام الجاري بصفة مستمرة خوفا من قدوم مجلس رئاسي غير مضمون سياسيا، لا يسير على هوى روما، وهو الامر الذى تتفق فيه معهم مصراته، وعندما يائس حزب العدالة والبناء من تعنت السويحلي، قرروا تغييره والقدوم بشخص خالد المشري (عضو جماعة الاخوان المسلمون) فى 8 ابريل الماضي، وكان سبب موافقة الاخوان على مقترح غسان سلامة لقناعتهم بأن فشل الحل السياسي سيؤدي الى حل عسكري يضيّع كل مكتسباتهم.

الى أن جاء شهر مايو وبالتحديد يوم 29 مايو كي يجتمع كلا من المشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج، ورئيس مجلس الدولة خالد المشري فى العاصمة الفرنسية باريس برعاية من الرئيس الفرنسي ايمانيول ماكرون، وانتهى الامر بموافقة جميع تلك الاطراف المشاركة فى باريس بالتوجه نحو الانتخابات والسير على طريق المبعوث الاممي غسان سلامة.

وحينها لم نسمع اعتراضات من احد سوى ايطاليا التى جن جنونها بعد أن استطاعت باريس وحدها أن تجمع حفتر والسراج للمرة الثانية، وفى المرة الثانية كانت بمشاركة عقيلة صالح وخالد المشري، وفى الداخل الليبي كان العويل والندب فى مصراتة التى رفضت دعوة باريس، حتى أن خرج أبو القاسم اقزيط عضو مصراتة بالبرلمان ليصرح بأن "دعوة مصراتة للحضور فى مؤتمر باريس كمجرد ضيف تمثل أهانة لمصراتة ومكانها ونفوذها".

ومن ذلك التصريح تتجلى مشكلة مصراتة مع فرنسا وهدفها من الحرب فى ليبيا منذ سبعة اعوام، فمصراتة رفضت أن يحضر المشير ورئيس مجلس النواب كرؤوس متساوية مع فايز السراج، بل أن الصورة فى باريس وضحت أن المشير حفتر هو الخيار الاول لماكرون، وعلى حساب اي شخص أخر.

وحقيقة الامر مصراتة برجال اعمالها المؤثرين فى الاقتصاد الليبي تريد ان تكون دولة داخل الدولة، أو هي الدولة الليبية وحدها دون غيرها، ولذلك تشعر بكبرياء وتعالي فى كل المواقف، ولا تريد الاعتذار لبنغازي عن ما صدرته مصراته من ارهابيين وجرافات ودمار للشرق الليبي، كذلك شاهدوا كيفف تتعامل مصراتة مع ازمة سكان تاورغاء.

وهنا كان خيار مصراتة عسكريا، بعد ان تواصلت مع رجلها القابع فى كهوف الجنوب ابراهيم الجضران ومرتزقة تشاد بالسدادة وبمشاركة ودعم من ايطاليا وحلفائها فى الملف الليبي، جتى صار الجضران معه مرتزقة بالمئات من افريقيا وأكثر من 600 سيارة مصفحة، وقدرات الالكترونية على التشويش واسلحة ومدافع ثقيلة، حتى ذهب الجضران بكل تلك الترسانة للهجوم على الهلال النفطي، كي يحرج الجيش الليبي من جديد، ويحرق عمود الاقتصاد الليبي الوحيد، ويحجم نفوذ شركة مارثون الامريكية (التى استحوذت على نصيب فرنسا فى حقل الواحة العام الماضي) لاستكشاف النفط فى ميناء السدرة، الامر الذى يعلي من شان شركة أيني الايطالية فى ليبيا من جديد.

ولذلك عندما حرر الجيش الوطني الليبي ثم اعاد تبعية الهلال النفطي لبنغازي، لم تعترض الولايات المتحدة على تلك الخطوة، برغم محاولات فايز السراج واحمد معيتيق ومصطفى صنع الله معهم، كي يصدروا بيان بأدانة قرار نقل تبعة الهلال النفطي لبنغازي، فأتفاق باريس الذى رحبت به كافة الاطراف الليبية المشاركة، رحب به أيضا كل اعضاء مجلس الأمن يوم 6 يونيو أي بعد اسبوع من الاعلان عنه، وأشادوا بحضور اطراف الصراع في ليبيا وعلى رأسهم المشير حفتر، حتى قال مجلس الأمن انه سيعاقب المعرقلين لإتفاق باريس، وهذا يعني موافقة الولايات المتحدة على المشير خليفة حفتر كقائد للجيش الليبي، وهو الامر الذى ادركته مصراتة.


 
فبعد ان استعاد الجيش الوطني الليبي الهلال النفطي يوم 21 يونيو، اعلنت القيادة العامة في يوم 25 يونيو تسليم الموانئ لمؤسسة النفط التابعة للحكومة المؤقتة في البيضاء، وقالت ضمنيا ان الهجوم على الهلال النفطي كانت تقف وراءه قيادات البنيان المرصوص التي يدعمها ماليا مصرف ليبيا المركزي من اجل تخريب اتفاق باريس، وهنا تحركت الولايات المتحدة بعد تلك الرسالة المباشرة من بنغازي، لوقف العبث الذي تمارسه البنيان المرصوص لأن ميناء السدرة يتبع لشركة الواحة الذى تملك فيه الشركات الامريكية كـ ماراثون، واميرادا هيس، وكونوكو حصة كبيرة، فتوجهت فورا القائمة بالأعمال في السفارة الامريكية ستيفاني وليامز  لمصراتة يوم 27 يونيو بصحبة الجنرال غريغ أولسون نائب قائد الافريكوم، وعقدت اجتماعات مع نواب وقيادات عسكرية في المدينة ولم تدعي اليها اي ضابط في البنيان المرصوص، والعسكريين الذى اجتمعت بهم هم أمر الكلية الجوية ورئيس وحدة مكافحة الإرهاب وضباط يتبعونهم، والتعليمات كانت واضحة بأن أي قوة تخرج بإتجاه الهلال النفطي سيتم ضربها من الافريكوم او من السلاح الجوي التابع للقيادة العامة.

ولم تكتفي الولايات المتحدة بتلك الرسالة الحادة لمصراتة ولعصابة البنيان المرصوص، بل فرضت واشنطن ستيفاني وليامز تكون نائب لغسان سلامة فى طرابلس، لضمان عدم عرقلة جهود غسان سلامة فى تنفيذ اتفاق باريس.

فأن كان رئيس وزراء ايطاليا الجديد يكمل ما توقف عنده سلفه السابق باولو جينتيلوني، وأن كان وزير الداخلية ماتيو سالفيني يسعى جاهدا ان يثبت أنه أكثر حزما وتاثيرا من سلفه ماركو مينيتي، وأن كانت وزير الدفاع إليزابيتا ترينتا تتعجل اعلان عودة ليبيا كمستعمرة ايطالية بشمال افريقيا عندما صرحت لصحيفة ليجورنالي "في ليبيا القيادة لنا يا فرنسا"، وأن كانت بريطانيا لم تغير سياستها تجاه ليبيا بعد ان رفضت وحدها فى مجلس الامن ادراج الارهابي ابراهيم الجضران (الذى دمر مخازن النفط بالهلال النفطي) على قوائم الارهاب، واستمرار سير سفيرها الجديد فى ليبيا فرانسيس بيكرعلى نفس نهج سلفه السابق بيتر ميليت الذى يرمي لتعزيز الاخوان المسلمون فى كافة مفاصل الدولة الليبية، والعمل على تأجيل الانتخابات، كي يستمر تغلغل الاخوان فى مفاصل الدولة، واستمرار التواصل مع مجموعات بعينه تتلاقي السلاح من بريطانيا عبر قاعدتها العسكرية بقبرص.

 فأن الولايات المتحدة وادارة ترامب بوصلتها جائت مختلفة عن بوصلة باراك اوباما وهيلاري كلينتون، الذين مكنوا منذ اليوم الاول لسقوط ليبيا من تمكين الاخوان من السيطرة على اركان البلاد، وضحوا بسفيرهم الامريكي هناك (وستكشف الشهور القادمة عن تفاصيل ذلك)، فهو قتل على يد من احرقوا قوت الشعب الليبي ومصدر دخله الوحيد بالهلال النفطي، وهو ما أطلعت عليه ادارة ترامب من الجيش الليبي ومجلس النواب واطراف عربية.

نعم ستيفاني وليامز (القائم بأعمال السفارة الامريكية حاليا) ليست كديبورا جونز السفيرة الامريكية السابقة بليبيا، وتواجدها بطرابلس سيكون أشبه بمن يضع مراقب حازم على مجموعة تلاميذ فشلة يريدون الغش فى الامتحان، فالان حقيقة كل ما يجرى فى طرابلس وما تفعله عصابات هشام بشر وهيثم التاجوري والكني وغيرهم، بجانب نائب فايز السراج احمد معيتيق وعائلته وفى المقدمة أبن أخته نهاد سيكونوا جميعا عراه امام ستيفاني وليامز، فالامريكية من اصول ايطالية والتى تتقن اللغة العربية جيدا بحكم عملها السابق، باتت الان نائب غسان سلامة فى طرابلس قبل ان تكون قائم بمهام السفارة الامريكية بها، ولستيفاني وليامز خبرة كبيرة فى الشرق الاوسط على عكس كل ما سبقوها، ولكم أن تعلموا أن ستيفاني وليامز عملت أكثر من 24 عاما من الخبرة في الشؤون الحكومية والدولية، ومن بين ذلك عملها كنائبة لرئيس بعثة في البعثات الأمريكية في العراق بفترة 2016-2017، والأردن بفترة 2013-2015، والبحرين بفترة 2010-2013، كما عملت كمستشارة كبيرة في الشأن السوري، فضلا عن عملها في السفارات الأمريكية بكل من الإمارات العربية المتحدة والكويت وباكستان، وفي واشنطن عملت وليامز كموظفة مسؤولة عن شؤون الأردن، ونائبة لمدير شوؤن مصر والمشرق العربي، ومديرة لمكتب المغرب العربي، وقبل التحاقها بوزارة الخارجية الأمريكية عملت وليامز في القطاع الخاص في البحرين، وتخرجت وليامز في جامعة ماريلاند عام 1987، بشهادة مزدوجة في الاقتصاد والعلاقات الحكومية، وفي عام 1989 حصلت على شهادة الماجيستير في الدراسات العربية من مركز جامعة جورج تاون للدراسات العربية المعاصرة، قبل أن تتخرج من كلية الحرب الامريكية، حيث حصلت على درجة ماجيستير في دراسات الأمن القومي عام 2008.

ولذلك نقول أن مساحات المناورة امام الايطالي فى ليبيا ستتقلص لصالح الفرنسي، والامريكي على استعداد لتلبية أي شئ لحفتر مقابل عدم مجيئه بالروس الى ليبيا، فالولايات المتحدة لا ترغب فى أن يتكرر المشهد السوري فى شمال افريقيا، وما جعل الولايات المتحدة تخاطب ود حفتر، عندما تم الاعلان عن دعم روسيا للجيش الوطني الليبي، ونشر خبر بالصحف التركية مؤخرا يفيد بمرور سفينة روسية محملة بالسلاح من مضيق البوسفور متجهة لليبيا.

ومن هنا جائت جراءة حفتر فى الاعلان عن نقل تبعية الهلال النفطي الى المؤسسة الوطنية للنفط ببنغازي منذ الساعة الاولى لتحرير الهلال النفطي دون تردد، وهو الامر الذى لم يقبل عليه عندما تكرر نفس المشهد فى 2016، عندما قام بتحرير الهلال النفطي من نفس مليشيات ومرتزقة ابراهيم الجضران.

الباحث والمحلل السياسي بشؤون الشرق الاوسط

[email protected]

الاراء المنشورة ملزمة للكاتب و لا تعبر عن سياسة البوابة