برهان هلّاك             

الحق عجوز و قديم و يغر

لكن ما يمتش و له طلاب

و التار قنطار

فوق كتف الحر

و الصبر فوقت البلوة عذاب

*ـ أحمد فؤاد نجم


بغض النظر عن مدى الجدية أو السير بالأمر إلى منتهاه في ما يتعلق بقضية تسفير التونسيين إلى البقاع الموتورة بكل الشحن العقائدي المظلم والدموي في سوريا وليبيا والعراق، فإن مجرد رؤية من كانوا يدفعون بالتونسيين إلى أتون معارك لا رابح فيها إلا ذباب الجثث، رؤيتهم وهم يُقتادون للتحقيق الفاضح لشرّهم هو أمر مبهج؛ ليس ذلك داخلا في باب العداء الإيديولوجي، وهو ما لم ولن نخفيه أبدا تجاه محتكري الله وأمناء السموات، وليس كذلك من باب التشفي، فمثل تلك النقيصة الأخلاقية لا تليق إلا باللفيف المذكور آنفا، بل هو من باب كفكفة دموع الأمهات اللاتي بكين أبناءهن بكاء مرّا إذ خيّروا جنّات غير تلك الواقعة أسفل أقدامهن.

في الثاني والعشرين من سبتمبر الجاري، تمّ عرض كافة المشمولين بالتتبعات الأمنية في ملف التسفير الى بؤر التوتر على النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب بتونس، بعد أن كانت نفس النيابة العمومية قد أذنت بفتح التحقيقات والأبحاث في ما يخصّ ذلك الملف بتاريخ 11 من الشهر الحالي. وقد تمّ إيقاف عدّة أطراف لها علاقة بهذا الملف؛ شملت الاعتقالات محافظا سابقا بمطار تونس قرطاج، بالإضافة إلى كوادر أمنية سابقة على غرار فتحي البلدي وعبد الكريم العبيدي وفتحي بوصيدة والنائب السابق بالبرلمان المنحل رضا الجوادي والشيخ البشير بلحسن. كما تمّ إيقاف رجل الأعمال والنائب السابق، محمد فريخة، وذلك بشبهة التورّط في شبكات التسفير عبر شركة الطيران التي يملكها، "سيفاكس إيرلاينز Syphax Airlines ".

وكانت حركة النهضة الإسلامية الحاكمة سابقا وقياداتها من أبرز المشمولين بالتحقيقات في هذا الملف، إذ تم إيقاف بعض قياداتها من قبيل الحبيب اللوز. ووُجِّهت استدعاءات للتحقيق بحق بعض قياداتها الأخرى، ومن أبرزها أمير الحركة راشد الغنوشي وأمينها العام ورئيس الحكومة الأسبق، علي العريّض.

إن الإخوان الذين حكموا تونس لعشر سنوات، حفارو القبور الجدد بعبارة العظيم روجي غارودي، هم المتورطون أخلاقيا وسياسيا، ناهيك عن التورط القانوني المحتمل، في ملف تسفير الشباب إلى الموت في سوريا والعراق وليبيا؛ لقد جعلوا لعشرية حكمهم هدفا أوحد، إحلال "ديمقراطية" يقدّونها على مقاس نزواتهم وطباع التوحش المتأصلة في ذواتهم التنظيمية، جاعلين من حلم التونسيين بديمقراطية حقة ديناميتا فتّت الحدود وقوض سيادة البلاد وسيادة أقطار عربية شقيقة من أجل حكم التنظيم بمختلف أفرعه بالبلدان العربية. وإن كان استباق أي إدانة قضائية داخلا في باب التجني، فإن مؤشرات من قبيل تعمّد حركة النهضة الإسلامية الحاكمة سابقا في كل المراحل إلى تعطيل عمل اللجنة التي كلفت في صلب البرلمان للتحقيق في ملف التسفير الى سوريا و ليبيا و العراق، لهو خير برهان على مخاطر محتملة لتحقيق وفحص دقيق لهذا الملف الشائك؛ هذا ما تؤكده النائبة السابقة بالبرلمان، فاطمة المسدي، والتي كانت قد تقدّمت بملف للقضاء به أكثر من 200 صفحة ضمّ تقارير وشهادات ووقائع قامت بجمعها، وفيها تصريحات ومقاطع فيديو ثابتة عن الجوانب الدعوي والأمن الموازي للحركة الإسلامية، والتمويلات من الجمعيات الأجنبية والمشبوهة وعلاقة ملف التسفير بعمليات الاغتيالات والعمليات الإرهابية. وتضيف المسدّي أنه تم تعمد تعطيل عمل اللجنة صلب البرلمان المنحل المكلفة بالتحقيق في قضية التسفير.

أما عن أحد أشهر الحجج المضادة للتحقيق والبت في تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر، يقول الإخوان، وبعض من الديمقراطيين الزئبقيين، أن التسفير ليس ملفا خاصا بتونس، وإنما هو ملف عابر للقارات عانت وتعاني منه أغلب الدول في الاقليم وفي العالم وارتبط في السنوات الأخيرة بالإرهاب وبمناطق التوتر. ليس ذلك إلا ضربا من التعويم والتتفيه الذي تجيده الحركات الإسلامية وأنصارها، وإن في هذه الحجة من المغالطات ما يجعلها حاملة لخصائص تهافتها وبذرة سقوطها على محك المنطق؛ فحتى وإن كان الملف قضية دولية عابرة للقارات، فإن الولاية القضائية على الأشخاص الحاملين للجنسية التونسية مثلا تعود للقضاء التونسي أولا وبالأساس. ولذلك فهو الأجدى بالبحث والتمحيص وتحقيق العدالة لعائلات وذوي الشبان الذي التهمتهم أهوال "الحرب المقدّسة لتحرير أرض الشام". وبالإضافة إلى ذلك، فإن التجييش المسموع والمرئي من قبلنا كتونسيين لفترة سنوات عديدة هو خير دليل على تهافت هكذا حجة، فحتى وإن كانت جموع الشباب قد أقبلت من أصقاع شتى من العالم، فإن الشباب التونسي قد تم إقناعه بالتوجه إلى هذه المناطق المتوترة خلال خطب صلاة الجمعة والحلقات الدعوية، بل وحتى الاجتماعات الحزبية والانتخابية، من قبل العديد من قادة حركة النهضة الإسلامية، لعل أبرزهم "صقور الحركة" من أمثال الحبيب اللوز والصادق شورو، و "الخليفة السادس حمادي الجبالي".

وقد كشف مدير الأمن الرئاسي التونسي وكاتب الدولة السابق للشؤون الأمنية (الذي يترأس جميع الأجهزة الاستخباراتية)، رفيق الشلي، تفاصيل هامة حول ملف “تسفير الشباب” إلى سوريا والعراق؛ فقد قال هذا الأخير في حوار أجرته معه وكالة “سبوتنيك” الروسية للأنباء أن قرارات سياسية عرقلت استكمال التحقيقات في قضية “تسفير الشباب” إلى بؤر التوتر، وإن جميع الأدلة والأبحاث الخاصة بخلايا التسفير في تونس أكدت تورط قيادات معروفة. بيد أن صناع القرار السياسي قد حاولوا دوما إغلاق ملف هذه القضية. وبذلك تكون هذه الإرادة السياسية الإسلاموية المنحرفة قد ساهمت، عبر خطابات وألاعيب في الغرف المظلمة وأروقة الحكم، في خدمة التيارات المتشددة وسهلت استقطاب التونسيين الذين سافروا إلى ليبيا لرفع السلاح تحت لافتات النفير المقدس و"الجهاد في أرض الشام" و "حضّ" الشباب على مساندة “الثورة السورية”.

ويقول الصحفي التونسي مختار الدبابي في مقال له بجريدة العرب أن هناك فارقا بين الإسلاميين خلف الكواليس وبين الإسلاميين تحت الأضواء من ناحية، أي حينما يقدمون أنفسهم بدائل محلية/قطرية ويسعون لنفي أي ارتباطات خارجية فكرية أو سياسية خاصة في ما يتعلق بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. ولعل المثال الأبرز في طريق هذا التحول إلى المحلي هم الإسلاميّون في تونس، وأساسا حركة النهضة التي تدافع عن هويتها المحلية وتنفي أي ارتباط بالخارج يتجلى في الحالة السورية؛ لقد استدعت قيادات الإخوان في تونس مفهوم الجهاد الذي يحض على التوجه إلى سوريا، وهو الخطاب الذي راج في المساجد وعلى ألسنة أئمة اخترقوا الزمان والمكان واستعادوا فتاوى قديمة للحث على جهاد في حرب يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي، وهو ما " يكشف عن عقل قاصر في التحليل والتأويل والتوقع" حسب تعبيره.

بعد دموع الأمهات الملتاعات اللاتي ذرفن دموعا في بكاء مر على أبنائهن الذين تصيدتهم مسيّرات التحالف الدولي لمحاربة داعش في سوريا والعراق، وبعد تواطئ حكام الأمس وتآمرهم على سلامة البلاد وأمنها وعلى شبابها الذين راحوا شراذم في البحر إلى الضفة الشمالية للمتوسط وبين محافظات درعا وإدلب في سوريا الجريحة؛ فإن أكثر ما يجرح ويوجع ويؤلم حقا هو رؤية بعض الديمقراطيين وهم ينافحون عن خيانة الإسلاميين الحاكمين بالأمس، لا بل يدافعون عنهم بتعلات قبيحة من قبيل "السعي إلى تشويههم"... إن قيادات النهضة الإسلامية في تونس لم تترك يوما المجال لأحد أن يشوهها بما ليس فيها، خيانة، غدر، دم، ترهيب، تركيع، وزور وبهتان لا يندى لهما إلا جبين كل متحرر من دعاياتهم المدنّسة.