برهان هلّاك

تنمّي الوضعية المالية و الاقتصادية العسيرة لتونس عدة مخاوف إفلاس محتمل على ضوء تأكيد المؤشرات على شبه إنعدام قدرة الدولة على تغطية نفقاتها جراء عجز غير مسبوق في موازناتها المالية، و إنعدام قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين و الجهات المانحة. و يأتي ذلك توازيا مع الضربات الموجعة لسمعة الإقتصاد التونسي في ظل الترقيمات السيادية التي ما فتئت تسوء جارّة معها النظرة المستقبلية لتعافي الإقتصاد بالبلاد إلى آفاق سلبية. كما ينعكس الوضع السياسي لما بعد 25 جويلية 2021 سلبا على هذه الأزمة الإقتصادية من حيث تردد الجهات المانحة و القوى الدولية في التعامل مع الدولة التونسية التي " تحوم حولها شبهات إنقلابية " كما يُضَمّنُ في بياناتهم.
و يأتي ترقيم وكالة موديز الفارط و قد أنزل تصنيف الدولة التونسية إلى مستوى " سي "، و هو مستوى تتقاسم فيه تونس نفس المرتبة مع دول تعيش مخاطر مالية كارثية من قبيل سريلانكا و السلفادور. و على الرغم من أن هذا الوضع هو نتاج مباشر لعشرية إنهيار شامل و عطالة إنتاجية و هيكلية للإقتصاد، فإن الدولة  و القائم عليها اليوم، و من باب إستمراريتها، فهي مطالبة بالتعامل مع هذا الخطر الداهم؛ إنه من الصبياني اعتبار تصريحات رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، التي انتقد فيه عمل وكالات التصنيف و الترقيم الدولية مرجعا للتصنيف السلبي حديث العهد، إذ تعمل هذه الوكالات على أرقام و تحاليل و جرد للمعطيات الرقمية و تتبّع شديد الدقة لأي تقلبات إجتماعية أو إقتصادية أو حتى سياسية، و ليس داخلا في باب إهتماماتها تصريحات الأفراد أو الجهات السياسية مهما علا شأنها. كما أنّ اجتماعات النظر في تحيين ترقيم الدول عادة ما تكون مبرمجة بأشهر قبل تحديث التصنيف، بالإضافة إلى أن هذا التصنيف هو دليل على تواصل الإنهيار الإقتصادي الذي أدى إلى حصول تونس على تصنيف ذي آفاق سلبية في فيفري الفارط، و هو ما يسند التوقعات بالحط من الترقيم التونسي في المراجعة التي نتج عنها التصنيف الأخير.
و يعني هذا التصنيف السلبي صعوبة شديدة في الحصول على حزمات تمويلية من الجهات المانحة الأجنبية و التي ستمكّن من توفير العملة الصعبة الضرورية لإستيراد المحروقات و القمح و الأدوية و التكنولوجيا و لخلاص الديون و خدمة الدين. كما أن هذا التصنيف عالي المخاطر سيؤدي إلى استنزاف احتياطي العملة الأجنبية بالبنك المركزي التونسي، و هو ما من شأنه التأثير سلبا على قيمة الدينار التونسي و على القدرة على توريد ما يلزم الاقتصاد التونسي من مواد تجهيز و طاقة ومواد أولية.
و يتفاقم سوء وضع المالية التونسية في ظلّ البحث المحموم عن حلول لعجز الموازنة بهدف تعبئة مبلغ 9 مليارات دولار لمواصلة تسيير النفقات العامة للدولة التونسية في ما تبقى من سنة 2021، و ذلك في وضع يكون فيه خروج تونس إلى السوق المالية العالمية للاقتراض غير ممكن حاليا مع وجود نسب فائدة عالية جدا تصل إلى 15 في المائة حسب ما يؤكده خبراء في المالية كالدكتور رضا الشكندالي؛ أشار الشكندالي إلى وجود " فجوة مالية في ميزانية الدولة لا يمكن سدها إلا باللجوء إلى البنك المركزي "، كما أقرّ حيرة البنك المركزي من أمره، فهو إن وافق على تمويل نفقات الدولة الى آخر السنة قد يتسبب في انفلات على مستوى الأسعار، وإن رفض فقد يضطر رئيس الجمهورية لإعفائه و مراجعة قانون إستقلالية هذه المؤسسة. و تؤكد جميع الأطراف على أن الحل على أمد متوسط هو تعافي الآلة الإنتاجية و العودة إلى الإنتاج بشكل طبيعي و مضاعف، في حين يكون الحل على الأمد القصير محاولة تعبئة موارد مالية جديدة عبر الإقتراض و التوصل لآليات مساعدة مالية من أي طرف عالمي مستعد لتقديم يد العون.
كما كشف البنك المركزي التونسي عن مفاوضات متقدمة مع السعودية والإمارات لتعظيم موارد الدولة التونسية التي تعاني نقصا شديدا، إذ قال المدير العام للتمويل والدفوعات الخارجية في البنك المركزي التونسي، عبد الكريم لسود، لإذاعة "شمس أف أم" التونسية إنه سيتم فتح الباب لتعبئة موارد الدولة عن طريق التعاون الدولي، وأشار إلى وجود نقاشات متقدمة جدا مع كل من السعودية والإمارات من أجل تعبئة موارد الدولة، إضافة إلى ضرورة تطوير التعاون الثنائي مع الجزائر. و قد قال مسؤول كبير في صندوق النقد الدولي أنّ الصندوق على اتصال بالسلطات التونسية بعد تشكيل حكومة جديدة، و من المتوقع إجراء مزيد من المحادثات قريبا بشأن نوع المساعدة التي تحتاجها الدولة التي تعاني من ضائقة مالية.
 
و يؤكد مسؤولون في الدولة على أن توصل تونس لاتفاق مع صندوق النقد الدولي هو الحل الأول لإدخال إصلاحات هامة على الاقتصاد الوطني، غير أن هذه الآلية غير مضمونة النتائج لإعتبارات متعلقة بضبابية الرؤية السياسية في البلاد؛ قال جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، لرويترز بأنّ "صندوق النقد يراقب عن كثب تطور الوضع السياسي في تونس ويعمل موظفو الصندوق مع السلطات على المستوى الفني " كما أشار إلى خروج محادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن قرض يمكن أن يفتح الباب أمام مساعدات ثنائية من مانحين رئيسيين عن مسارها و ذلك عندما علّق الرئيس قيس سعيد عمل البرلمان في 25 جويلية الفارط و أقال رئيس الوزراء و تولّى السلطة فيما وصفه خصومه بانقلاب على الدستور و الشرعية الإنتخابية.
 
و بذلك فإن صعوبة الإقتراض ليس مأتاها الوحيد الوضع المالي العويص بتونس، بل كذلك سمعة البلاد السياسية في العالم و تخوفات المانحين من تقديم تمويلات لما يعتبرونه نظاما قد يكون سلطويّا و إنقلابيا. و في هذا الإطار يتنزّل مشروع البيان، أو القانون، الأوروبي الجديد المثار حوله الكثير من الجدل؛ يتم الحديث في الكواليس عن عزم أوروبي على اشتراط عودة البرلمان إلى عمله و تعليق تجميد نشاط العمل النيابي بتونس حتى يتم التعامل مع هذا " الجار الإستراتيجي "، أي تنشيط المبادلات التجارية و المالية التي شهدت ركودا جراء الأزمة الناجمة عن تفشي جائحة كورونا و التي انطلق الإتحاد الأوروبي في التعافي منها. هذا و قد دعا الاتحاد الأوروبي الرئيس التونسي، قيس سعيد، إلى " استعادة النظام الديمقراطي"، و إعادة فتح البرلمان المجمّدة أعماله، كما قال جوزيب بوريل، منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، في نقاش بالبرلمان الأوروبي في ستراسبورج بأنّه "لا يمكن أن يظل البرلمان مغلقا لأجل غير مسمى".
كما يتعمق واقع التردد في إسناد تونس ماليا من طرف الولايات المتحدة نتيجة لهذه الاعتبارات و رفض " مبدئي في التعامل مع أنظمة إنقلابية أو تحوم حولها شبهات إنقلابية "، إذ اشترط الكونغرس الأمريكي بالأمس تسديد الاعانات العسكرية بإعداد وزارة الخارجية لتقرير يوضّح مدى مشاركة أو مساندة القوات العسكرية التونسية في " تراجع الديمقراطية " و مدى إعتماد الحكومة التونسية على القوات العسكرية لتكريس " حكم فرداني محتمل "، و مدى جدية الحكومة التونسية في سعيها إلى " إرجاع النظام الدستوري و الحكم الديمقراطي " بما في ذلك " حرية التعبير و التجمع و الصحافة "، و ذلك في إطار مناقشات مسوّدة قانون المالية و ميزانية وزارة الخارجية بالولايات المتحدة الأمريكية. و يحدّ ذلك من قدرة الديبلوماسية التونسية على التوجّه للقوى العظمى التي ستكون بمثابة ضامن لتونس في الأسواق المالية العالمية، كما كان دأب الولايات المتحدة في مناسبات فارطة.
 
يتفاقم سوء الوضع الإقتصادي و المالي بتونس يوما بعد يوم في ظل أعطاب محورية خطيرة، و في ظل العجز عن إستئناف العودة للإنتاج الذي يعدّ بمثابة الحل الأوحد لأزمات متعددة متعلقة بتوفير العملة الأجنبية و معاضدة دور البنك المركزي في تقنين و تنظيم سلسلة الأسعار. و يزيد الطين بلة ضعف المؤسسات الديبلوماسية التونسية الحالي في تحسين صورة نظام ما بعد 25 جويلية 2021 في نظر القوى العالمية الماسكة بزمام آليات الإقراض و مصادر التمويل العالميّة.